الأربعاء، 26 أغسطس 2020

شعراء جرش .. البناء والرؤية


                                                              
                 

 د. عبد الرحمن الرشيد
     لا شك أن محالة قراءة سبعة أعمال شعرية من خلال ورقة نقدية واحدة هو أمر تعتوره كثير من الصعوبات إذا حاول الناقد أن يتجاوز القراءة السطحية إلى مناقشة جوهر العمل وإشكالياته، وعندما يبتعد عن التعليقات الجاهزة ليصل إلى تمثيل دقيق للعمل الشعري من جميع جوانبه، فالدواوين الشعرية موضع القراءة مختلفةُ الاتجاهات في أفكارها وقضاياها وبنائها، وربما كان الرابط الواضح الوحيد بينها أنها نتاج شعراء من مدينة جرش، ومن المعلوم أن هذا ليس معيارا نقديا يمكن البناء عليه في القراءة النقدية،
   من جهة أخرى فإن قراءة هذه الأعمال تجعل القارئ أمام اشكالية اختيار العناصر والظواهر الشعرية التي تستحق الإشارة والتحليل واغفال غيرها من الظواهر، ولا بد أن الكثير يدرك أن ظاهرة شعرية واحدة قد تستحق التأمل والبحث والتحليل بما يتجاوز حدود هذه الورقة النقدية.
   كل هذه الاشكاليات قد تبرز بقوة أمام من يضطلع بقراءة هذه الأعمال الشعرية، لكن للخروج من السطحية في القراءة ومحاولة النفاذ إلى العوامل الجوهرية في تشكيل هذه الدواوين، كان لا بد أن تستند هذه الورقة إلى منظور محدد في مقاربتها للنصوص الشعرية بغرض تجلية مكامن الابداع والتفرد فيها، لأن القراءة دون دليل أو منهج تصبح قولا على قول غيرَ خاضع لمنطق أو ترابط وبالتالي لا يقدم تحليلا واضحا ورؤية متكاملة، لذلك فإن هذه القراءة النقدية تنطلق من بعدين في قراءتها للدواوين وهما: الرؤية والبناء الشعريين، فمن خلالهما نحاول تلمس أبعاد العملية الشعرية وتجلياتها في هذه الأعمال بالنظر إلى الرؤية المسيطرة في الديوان وإلى البناء الشكلي المعبر عنها. وبذلك ننطلق من فكرة واضحة ومحددة في القراءة النقدية وهي فكرة أزعم أنها الأقدر على تقديم التصور الأقرب في حدود ورقة نقدية محدودة. فالشعر بمفهومه العام هم تصور للكون والحياة يتكشف لنا من خلال اللغة، والعلاقة بين جمالية اللغة وجمالية الرؤية هي علاقة وثيقة ومترابطة فكلاهما يكمل الآخر ويؤثر فيه.
    لا بدّ من الإشارة ابتداء أن الدواوين الشعرية موضع القراءة قد صدرت جميعها في العقد الثاني من هذا القرن، بدءا من 2010 وحتى هذا العام، والمتأمل فيها يجدها صورة مصغرة لحالة الإبداع الشعري المحلي والعربي عموما، فقد احتوت على تباين واضح من حيث بناؤها الشكلي وما قدمته من رؤى مختلفة للعالم والوجود، كما رافقتها الاشكاليات نفسها التي ترافق الشعر العربي المعاصر.

(زهرة الوديان)
     التزم أحد الدواوين بالشكل التقليدي للقصيدة (قصيدة الشطرين) وهو ديوان (زهرة الوديان) 2013 للشاعر ياسر أبو طعمة، فأظهرت قصائد الديوان قدرة واضحة على السير على خطى القصيدة التقليدية بدقة، من خلال الموضوعات المطروحة والحالة الشعورية التي يظهر فيها الشاعر، ومن خلال الشكل الخارجي والداخلي للقصيدة أيضاً، فمن حيث الشكل العروضي اعتمد الديوان على خمسة بحور شعرية وهي من البحور المتداولة (الكامل والوافر والرمل والبسيط والمتقارب) كان للبحر الكامل نصيب الأسد منها حيث كتبت ثلاث عشرة قصيدة على هذا البحر من أصل احدى وعشرين قصيدة يحويها هذا الديوان، وربما يعزى السبب في ذلك إلى سهولة ايقاع البحر الكامل وعذوبته وانسيابه ومناسبته لكتابة المطولات، فقد جاءت بعض قصائد هذا الديوان طويلة نسبيا فالقصيدة الأولى بلغت ستين بيتا واغلب القصائد الاخرى تجاوزت الثلاثين بيتا، فكان الكامل هو الأنسب لهذا التدفق الشعري عند الشاعر.
    أما فيما يتعلق ببناء القصيدة الداخلي فقد تشكلت في الغالب من مقومات القصيدة التقليدية، وفيها نستطيع أن نجد كل جوانب القصيدة التقليدية من ذكر للوقوف بالأطلال وتذكر الرحلين من الظعائن كما في قوله:
واسأل رسوم الدار عن أيامهم     ففراقهم أدمى الحشا لم يسعفِ
دار بودّي لم أقبل تربها              وأعانق الطلل القديم ومألفي   (قصيدة وداع)
وقوله:
ما لدمعي فوق خدي ينهمل   ان بدا برق تراى بالطلل
والفؤاد الصب مني نازح   أينما راحوا وحلّوا يرتحل   (يا خفيف الروح)

ولأن معظم القصائد التي يقدمها الديوان هي قصائد غزلية، فقد ظهرت الأجزاء الرئيسية من القصيدة الغزلية التقليدية، من تشبيب ووصف وتعبير عن المعاناة وألم العشق إلى ذكر الطيف والعذّال، لذا نجد أن صورة الحبيبة في قصائده الغزلية متوافقة مع المنظور التقليدي لطبيعة هذه العلاقة واشكالياتها، فالعذول حاضر في هذه العلاقة كما في قوله:  
إن العذول وقد رأى ما أشتكي      قد قال عنّي: ذاك صب مغرم  (في يوم ميلادي)
وقوله:
ألا يا لائمي لو كنت مثلي          بكيت دماً وما يُجدي الكلام (رسالة أخرى)
وطيف المحبوبة حاضر في خياله يستأنس به ويتشوق له حيث يقول:
فإن الطيف منك على فؤادي     كما روضٌ به جاد الغمام  (رسالة أخرى)
    وكانت الصور المبثوثة في الديوان للحبيبة من حيث العيون والرضاب والخدين والوجه والجيد والقدّ هي الصور التقليدية نفسها، مثال على ذلك تكراره للصورة التقليدية لعيني المحبوبة التي تصيب الحبيب بسهامها، كقوله:
قد رماني من سهام جردت   من جفون تشتكي حلو الكسل (يا خفيف الروح)
وقوله:
ردّي سهامك عن فؤادي والحشا    يا ظبية ترنو بطرفِ أشوس   (عيون النرجس)
وقوله:
رئم أغنّ قد رماني سهمه   من نظرة رمت الحشا فاستحكمت   (صادت فؤادي)
  لقد اعتمدت القصائد أيضاً على التراكيب التقليدية في التعبير من ذلك مخاطبته لرفيقه الساري وطلبه أن يبلغ تحياته :
يا ايها الساري تسابقه الخطى    عرج على دار خلا مسكونها
بلغ تحياتي لأكرم منزل       وقديم اطلال بدا مردومها   (لغيابكم وحشة)

أو مخاطبته للطيور في قوله:
يا أيها الطير المسافر نحوهم      تبدو لعيني كالخيال وتختفي
بالله إن زرت المعاهد قف بها     ودع الغصون المائسات ورفرف
وانقل لهم عني تحية صادق       وحنين قلب صابر مترئف    (قصيدة وداع)

    كما برز الشكل التقليدي بمحاولته في بعض القصائد الاستعانة ببعض التراكيب الشكلية التقليدية للقصيدة الجاهلية مثل:  فوقفت اسألها ...... عيّت جوابا ......  (حدو الرعاة) أو التراكيب الشكلية المتعلقة بفن الموشحات وظهر التأثر الكبير فيها من حيث بناء الجمل والمفردات والمضمون وخاصة في القصائد التي كُتبت على البحر الوافر، كقوله:   
يا جميل الورد يا قطر النّدى   يا نسيم الصبح أنفاسَ السحر  (ما لطرفي)
وقوله:
يا نسيم الليل يا قطر الندى   فيك يحلو حلو شعري والغزل   (يا خفيف الروح)
    لا يخفى أن ثمة اتصال كبير بين هذا الشكل التقليدي وما سينتج عنها من رؤية شعرية، فقد جاءت الرؤية في أغلب قصائد الديوان لا تجديد فيها مفتقد إلى روح العصر والتفاعل مع الواقع المعاصر، نجد أن الشاعر لا ينقل لنا تجربة الإنسان المعاصر مع قضايا الحب أو الشوق أو المعاناة بل هو تكرار لتجارب قديمة احتفل فيها الشعر العربي في عصوره القديمة.
     لقد مثلت القصائد في الغالب –باستثناء بعض القصائد كقصيدة (الربيع) و(ظبية شامية) و(أعود أغني)- صورة العاشق القديم المتيم المحافظ على عهوده، في مقابل هجران حبيبته أو بعدها، ومثلت القصائدُ المحبوبةَ بصورة مثالية أقرب إلى الأسطورية وهي الصورة التي احتفى بها الشعر القديم في الغالب. فحتى في قصيدة (يوم ميلادي)  التي من المفترض أن تقدم نوعا من التأمل في الوجود الذاتي، يكون الموضوع المسيطر في القصيدة هو العلاقة مع المحبوبة التي تسيطر على حياة العاشق يقول:
أما أنا، يا طول حزني فيكم    فسنين عمري كلّها لكِ مأتم
فإذا ابتسمتِ فكل شيء باسم   وإذا انتهيتِ فكل شيء مظلم   (في يوم ميلادي)

    مما يحسب للشاعر في هذا الديوان هو ثروته اللغوية الواسعة وسلاسة عباراته وترابط أفكاره، وقدرته على تمثل القصيدة التقليدية بكل مكوناتها ومحاولة إعادة انتاجها، لكن القارئ لا يخرج برؤى جديدة معاصرة يمكن أن تساهم في تطوير القصيدة العربية.



(أشبه أحلامها)
وفي السياق نفسه يبرز صوت أنثوي آخر ضمن هذه الدواوين المختارة وهو ديوان (أشبه أحلامها) للشاعرة مها العتوم، صدر هذا الديوان عام 2010، يحوي 40 قصيدة، التزمت في معظمها بشكل قصيدة التفعيلة باستثناء قصيدة شطرين واحدة هي (ترويدة)، وأربع قصائد نثرية هي (أسكن.. فيك) (أحلام مسروقة) (نهاية فاخرة) (نبحث عنا). جاءت قصائد الديوان مبنية بشكل متقن، يجد فيه القارئ قدرا كبيرا من الترابط والوعي بالعملية الابداعية التي تتطلب عناية بالشكل والايقاع سواء الخارجي أو الداخلي لتحقيق قصيدة متكاملة.
    يتشكل بناء أغلب قصائد الديوان من خلال العلاقة بين ركنين أساسين في القصيدة وهما: الصوت الأنثوي (المخاطِب) وهو الجانب الحاضر والحالم المتأمل المتزن، والرجل أو الحبيب (المخاطَب) غالبا وهو الغائب المتخيل، وتخضع العلاقة بين هذين الجانبين إلى كثير من التغيرات والتطورات التي تشكل بدورها طبيعة قصائده.
   إلى جانب هذا البناء تتشكل قصائد أخرى من خلال حضور صوت وحيد متأمل في الذات وتحولاتها، مثل قصائد: (لا شيء أكثر) (سماء أعلى) (سروة الليل) (نخلة الأشواق) (نهاية فاخرة) (مقامات الحيرة)  (أحدث نفسي)،  تقوم هذه القصائد على حالة من التأمل الذي يقود أحيانا إلى حالة من الصوفية في محاولة النفوذ إلى جوهر الذات الإنسانية.
   لكن ثمة عامل مشترك يجمع أغلب قصائد هذا الديوان ويشكل محورا رئيسا فيه، وهو الحلم، فكلمة الحلم أو المنام أو الرؤيا ومشتقاتها ترد أكثر من خمسة وأربعين مرة، إلى جانب ما يرافها من أجواء الليل والنجوم، بحيث يجد القارئ نفسه أمام ديوان متكامل شكليا ودلالياً، فالرؤية واضحة وثرية في أغلب القصائد، هذه الرؤية التي تتشكل من خلال حضور صوت المرأة الفاعل ونظرتها المغايرة والمفاجئة وغير المألوفة أحياناً، المرأة غالبا في الديوان تمثل عالم الحلم والخيال أمام الرجل الذي يمثل الواقع، فكان عنوان الديوان (أشبه أحلامها) لأن الصوت الأنثوي في الديوان يحتفي بالحلم ويعيش فيه ويشكل رؤيته من خلاله. 
تقول في قصيدة حلم:
تأخرتَ / ما كنت في الحلم قبلي/ وقفت على الصحو/ تحمل سكينة/ ودماي على درج الوقت تنقط.
.......
ربما كنتُ في حلم/ لم أعد منه ... والكل عادوا.  (حلم)
    بل إن الشاعرة تعي هذه الفرق بين الجانبين وتحاول أن تبعد الرجل عن الخوض في عالمها "عالم الحلم"، يظهر ذلك في قولها:
ولكن/ إذا كنت تعرفُ / كيف السبيل إلى ضفة / قد تؤلف حقلاً وبرية / فاحترس أن يراك المنام/ وضع وردة في منامي. (ليل معلق)
    كما تتشكل طبيعة العلاقة بين المرأة والرجل بالاستناد إلى الحلم والوهم والخيال، فما بينهما ليس واقعيا وإنما ما يبنيه الحلم ويشكله الخيال، ما بينهما هو المعنى لا الحقيقة، وهو ما يظهره هذا المقطع بشكل جلي وبإحساس جمالي:
بيننا شارع ../ لا ممرّ لسيارة/ أو لأقدام ناس حقيقية/ بيننا خضرة العشب لا العشب/ أو رِقة البحر لا البحر/ ما بيننا شارع أو أقل... (شارع أو أقل)
   تأتي بعض القصائد في الديوان لتؤكد سيطرة المرأة وقوتها وشدة تأثيرها وحضورها، تقول في قصيدة (أسكن فيك):
لن تلمس امرأة سواي/ إلا/ نفضت أصابعها من أصابعك/ وقالت: امرأة تسكنك.
    كما يطرح الديوان رؤية مغايرة للمرأة في علاقتها مع الرجل، فلا تظهر المرأة المنتظِرة والمتلهفة للقاء من تحب، بل على العكس من ذلك تطلب منه الغياب لأن الغياب هو الأفضل لوضوح الرؤية وللراحة من الانتظار، تقول:
سأراك حين تغيب أكثر/ وسأستريح من انتظارك/ من صباح غزالة برية/ هجع/ الإله بسرها/ لليل/ حتى (الله أكبر) (رؤيا الغياب)
   وفي السياق نفسه يبرز في الديوان صوت المرأة المتزنة التي تمتلك الحكمة ولها الدور في ترتيب طبيعة العلاقة بالرجل ففي قصيدة (الوصايا) التي يتكرر فيها فعل الأمر "دعيه" يبدو الصوت الأنثوي متجليا بالحكمة والخبرة في فهم سر العلاقة بين الرجل والمرأة، وفيه دعوة لمزيد من الحرية في هذه العلاقة التي تقوم على فهم الآخر وإعطائه مساحة من الحرية، ومحاولة تجاوز سطوة الرجل، والعودة إلى الذات عن طريق الابداع للتعبير عن مكنونها، تقول:
دعيه يمرّ من الماء/ ظمآن/ يرسم نبعاً ونرجسة ترتديه/ ومري إلى ضفة / تحملين الدواة ولوحته/ كي تُريه المسافة كاملة / بين لون الفراشة والنار/ كامنة في الزوايا.
وبذلك تظهر هذه الرؤية العميقة للعلاقة بين الرجل والمرأة التي تتجلى أيضاً في إدراك ضرورة أن تحتفي بالواقع لكن المشحون الرموز والدلالات والذي تغيب فيه في المقابل الأساطير، تقول:
دعي الرمز يكبر بينكما/ وتقلّ الأساطير / ليس الحقيقي أدنى/ دعي الفرق يزداد/ حين الحدود تذوب/ فليس التشابه أغنى/ ولا تحزني حين العطر يعبر كالعطر/ أو تشتهيه الصبايا.
فهي ترسم حدود علاقة جديدة تركز فيها على الواقع بما يحمله من رموز وإيحاءات مقابل التخلي عن الأساطير التي تدمر غالبا العلاقة، وتحث على توسيع دائرة الفروقات، فليس التشابه هو الذي يكفل صحة العلاقة.
    لكن أحيانا تبرز المرأة متأثرة لا مؤثرة، فتطالب الرجل –كما في قصيدة(لم لم تقل لي؟)-  بالعلاقة العميقة التي تكون بين العازف واللحن أو النورس مع البحر أو الريح مع الصحراء أو حتى علاقة العشق العذري التقليدية، صحيح أن المرأة هي التي توجه طبيعة العلاقة لكنها تطالب الرجل بدوره التقليدي الفاعل والمبادر والذي يلخصه قولها: 
لم لم تكن لي مرة/ لأكون لك؟
أو أن الرجل يبرز كمصدر لألم المرأة الذي يتحول إلى طاقة ابداعية لديها:
 كم نقطة من دمي/ ستصير/ حروفا لديك/ وكم/ أنت حيّ بدوني.
 
   أما قصائد التأمل في الذات فيحضر فيها الصوت الهامس المتعمق في التفكير في جوهر العلاقات، هذا التأمل الذي يتقاطع مع الحلم والخيال من منطلق البراءة الذي يشابه عالم الأطفال، نلمس ذلك في قولها:
أحدث نفسي/ بما يتحدث فيه الصغار مع الحقل/ حين يطيرون خلف الفراش/ وسرب الحمام/ فأمضي مع الذئب/ لا ذنب للذئب/ إلا إذا نهِد الكرم قدّامه/ وتراءى مع الفجر/ يعصر خمرا.    (أحدث نفسي)
فهذا التأمل العميق في الذات يقود إلى التشكيك في بعض المسلمات كصورة الذئب الذي يظهر بريئا مسالماً، وفي بعض القصائد بوح قاس يعاين الحيرة الوجودية، ونظرة تأمل دقيق في مآل الذات في رحلتها بين أن تكون أسيرة الخوف أو أن تكون التي انطلقت في دروب الحياة، وهو ما يكشف عنه قولها:
فمن أشبه الآن بعد الغبار/ النساء اللواتي عشقن القطيع/ وضعن مع الذئب في الخوف منه/ وربين جيل الخراف المعدّ لدور مثيل؟ /     أم سواي التي اكتشفت في سواها/ الينابيع/ واندفعت كي تعبي الجرار/ لتعرف أن السنين التي عبرت/ لم تمر ....
وكثير من القصائد التي تزخر بهذه الرؤى المشحونة بالدلالات، بما يجعل هذا الديوان متكاملا ومتناسقا في مستوى الرؤية المستندة على بناء جمالي متقن.

(عندما نقمت علينا الريح)
   أما ديوان (عندما نقمت علينا الريح) 2017 للشاعر علي النوباني، فهو يمثل عملاً متكاملا متجانساً من ناحية الرؤية الناظمة لقصائده مع اختلاف موضوعاتها وأفكارها. فقارئ هذا الديوان يشعر أن القصائد فيه هي أصداء لرؤية واحدة جعلت الديوان يصطبغ بحالة متجانسة في الغالب، وربما يعزى ذلك إلى أن هناك حالة من الشفافية والصدق في نقل التجربة الذاتية والتعبير عنها، فالديوان يدور حول الذات بتحولاتها وتفاعلها مع ما حولها ونظرتها للحياة المستندة إلى التجربة.
    هناك ثلاثة محاور أساسية يرتكز عليها هذا الديوان في رؤيته وهي: (1- اليأس وخيبة الأمل، 2- الغربة والارتحال، 3- الحب)، فربما لا تخلو قصيدة في الديوان من الإحساس بمرارة الحياة أو من التعبير عن خيبة الأمل أو من وصف الغربة الارتحال أو من نقد للزيف والنفاق في الحياة وكلها تنطلق من النظرة السوداوية للوجود، لكن مع قتامة المشهد الذي يقدمه الديوان إلا أن الحب يبرز بين الحين والآخر ليعطي بعضا من أمل لا يلبث أن ينتهي، فالحب –كما يظهر في الديوان- ما هو إلا لحظات تتسلل عبر عمر من الألم والمعاناة.
   قادت هذه الحالة التي تشيع في الديوان إلى الاحتفاء بالمفارقة والتضاد والمقابلة، حيث تبدت خيبة الأمل من خلال المقابلة بين المأمول والواقع وهو ما شكل ثنائية ظهرت في كثير من القصائد في الديوان ، حيث الإحساس بمعاكسة الحياة، ففي قصيدة (حكاية الأيام) التي يرصد الشاعر من خلالها - بنظرة العارف المجرب - مسيرة حياة حاقلة بخيبات الأمل والأمنيات، يقول:
تريد حكاية وتنال أخرى    فتجرحك البراثن والنيوب  (حكاية الأيام)
أو قوله في قصيدة مرثية الغريب:
تدبر في جوانحك اقترابا    وتنزف في مساكنك اغترابا
....
وهذي النار توقدها لتصحو   فتنبتُ حولها أرضاً يبابا  
....
ولما سار في خيط الأماني   تمطّى الأفق محترقاً وذابا   (مرثية الغريب)

وهو يؤكد هذا المعنى من خلال إشارته إلى العشوائية وغياب العدل في الحياة، يقول:
سجال ليس يصنعه اقتدار      وفوز ليس يحصده الأريبُ (حكاية الأيام)
  ويقدم في النهاية ملخص رحلة الحياة المشبعة بالسوداوية والاحباط، فلا خلاص ولا أمل وما يضيء فيها هو أيضاً مبعث الحزن ومن دلائل الانتهاء والموت، يقول:
هي الدنيا مرافئها ظلام   يضيء على أواخرها المشيبُ  (حكاية الأيام)
     هذه الرؤية القاتمة للوجود تدفعه إلى اليأس من التغيير، ويطال هذا اليأس حتى الإبداع نفسه الذي يراه الشاعر عاجزاً عن مواجهة الزمان المرّ، فهناك نهاية قاتمة لا مجال للخلاص منها كما يرى، حيث يقول:
    وإذا الزمان المرّ حلّ بساحة   ما نفع أن نحكي وأن نتمرّدا 
    كالنار تأتي للحياة مجلجلا        كالثلج ترحل ذاهلاً مترددا
                     ........
لا غرو أنك في متاه سابح     تمشي وتمشي فوق خارطة السدى  (قبل البرد... بعد البرد)
     ويظل هذا الوعي بسوء مآلات الحياة يثير قدراً كبيرا من الصراع في النفس ويزيد من التأملات في المصير الإنساني، يقول:
ما أصعب أن يمضي العمر ولا يبقى/ غير الآه المخنوقة/ والذكرى المجترة ليلا.  (ترحال)
     يبدو الشاعر ناقما على الظواهر التي تنقلب على الحياة وتشوهها كالنفاق والكذب، كما في قصائده (خذلان) و (الوجه الثاني) و (الشوك جميل أيضاً)، وثمة نقد عميق لبعض الأفكار الهادمة للحياة التي تعيش في زمن مختلف، والتي تمثل الموت حيث لا تحمل جديدا ولا تحفل إلا بالأحزان، يقول:
لا جديد في منازل الحفاظ ذوي العيون الضيقة/ والحروف التي تثير التقيؤ/ غير أنّ نكء الجراح من جديد/ صار عادة الصباح والمساء. (أفق المقبرة)
من ناحية أخرى تبرز صورة الحب بوصفه لحظات تخفف من ثقل الحياة وآلامها، والمحبوبة هي رمز التجدد والجمال والأمل:
في عينيك الدافئتين/ همس لربيع آت/ قرب الخدين/ في صوتك أغنية/ وملاك/ يسكن في قمرين.   (في عينيك)
حضور المرأة يشكل لحظات فارقة في حياة الذات وتحولاتها وهو ما يعطيها المعنى ويبعث في الحياة الجمال، يقول:
 في حضرتك/ تنزاح عن عيني الغشاوة/ تنجلي بالقرب منّي/ كلُّ أشيائي الحبيبة. (المسافر والطريق)
ويقول:
فتكلمت روحي بأنك جنتي   ومدائن الدنيا تضيء على الصدى
الرمل في الصحراء يصبح لؤلؤاً   إن زينت قدماك بالخطو المدى (البحر والرمال).
    والحب هو السبيل لتجميل الوجود وإعطائه المعنى، ففي قصيدة "عندما نقمت علينا الريح" تبدو المرأة في المقطع الأخير هي المخلص من عالم الكآبة واليأس ومشاهد القبح والضياع الذي حفلت به القصيدة، يقول مخاطباً لها:
قلت لها: حملقي/ لعل خيمتنا تغادر نحو صنوبر الطريق/ قلت لها: تأملي/ لعل في جوفك كرز يؤجج الأغاني. (عندما نقمت علينا الريح)
وفي قصيدة "عنترة ودائرة النحس" تمثل كذلك المحبوبة الأمل الوحيد ومصدر التخلص من الأحزان لدى عنترة، يقول:
حين أدير الظهر لأحلام باكية/ تتكور في ملكوت اليأس/ يبقى وجهك لغزاً/ محفوراً في أروقة النفس...  (عنترة ودائرة النحس)
لكن الحب من جهة أخرى ما هو إلا نتاجاَ للمواجع والآلام من منظور الشاعر، حيث لا يصل إليه الإنسان إلا إذا اجتاز المصاعب والكروب، يقول:
كأن تميمة العشاق طوق   تؤلفه المواجع والكروب (حكاية الأيام)
ويبقى حضوره محصوراً في لحظات محدودة في حياة لا تقسّم السعادة والأحزان بالتساوي، يقول:
رأيت الحياة لا تشاطر رأيها       تريح ليوم ثم تقسو كما الصخرِ
مرابع جفت من محاسن أهلها   ولحظة عشق في دهور من القفرِ  (لقاء العاشقين)
    يحفل الديوان بشكل واضح بموضوع الغربة والارتحال، وهو ما ينعكس على عناوين بعض القصائد مثل (المسافر والطريق) و(البحر والرمال) و(رحلة في جسد الافتراس) و(مرثية الغريب) و(ترحال)، وهو موضوع يتسق مع الرؤية العامة للديوان، حيث الاحساس بالوحدة والانعزال، والشعور بانعدام الأمل، وفراق الأحبة، فتبرز الغربة أحيانا معنوية عن المحيط الذي يعيشه الشاعر، يقول:
لأكثر من ألف مرّة/ تلاقي الأحبة بين المرافئ يوماً/ ويرتحلون/ لأكثر من ألف مرة/ يطول الغياب ويبقى الجنون.   (لوز ودمع)
ويكون الترحال أحيانا مصدراً لتأجيج المعاناة الناتجة عن زيادة الوعي والتأمل في تفاصيل الحياة، يقول:
الرمل وحبات العرق الساخن/ والصخر وليلى/ وذهولي في نار/ أججها ترحالي ويلاً  (ترحال)
ويبدو هذا الأمر جلياً في علاقة المسافر مع الطريق في قصيدة "المسافر والطريق"، حيث يتشكل وعي الذات بما تلاقي من صعوبات في طريق رحلتها، ويصبح الابداع أداة وشراعاً في هذه الرحلة:
قال المسافر إنه/ سمع المسافة تنحني/ فبنى شراعا من عيون العاشقين/ ورأى البحار تقول: لا/ فاستنبت الكلمات من وجع السنين. 

بقد استغل الشاعر في ديوانه الأشكال الشعرية الثلاثة (قصيدة الشطرين وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر)، واتسمت قصائد الشطرين بالقدرة على تطويع هذا الشكل لبعض الصور والتراكيب الشعرية الحديثة مع عناية واضحة بجمال الإيقاع، كقوله :
تحادثت النجوم أن فجراً          أطل فجاء آخره الغروبُ
حمائمه تسافر قرب روحي    وأنجمه على صوتي ندوب   (حكاية الايام)
لكن ظهر في بعض قصائد هذا الشكل بعض التفكك وغاب عن بعضها الوحدة العضوية في القصيدة بحيث يمكن نزع بعض الأبيات في القصيدة وخاصة الطويلة - مثل قصيدة "رحلة الأيام"- دون أن يؤثر ذلك على بناء القصيدة أو مضمونها، كما يظهر غياب الترابط في قصيدة "قراءة في كف حبيبتي" التي يبدأها الشاعر ببيان الحالة الاشكالية بينه وبين حبيبته المانعة للتلاقي، ثم ينتقل للإشارة إلى قراءته لكف الحبيبة وما تثيره هذه القراءة من رؤى وانعكاس ذلك على مستقبله في بيتين، لكنه يشير بعد ذلك للعرافة التي تقرأ طالعه وترى عيون حبيبته في دمه ويركز النصف الثاني من القصيدة على المعاناة في نار العشق ورؤيته المثالية لحبيبته وهو ما ليس له اتصال وثيق ببراءة كف الحبيبة.
      أما قصائد التفعيلة والقصائد النثرية فقد بدت أكثر ترابطاً، وظهرت فيها عناية واضحة بالصور والمشهدية التي تستفيد من السينما كما يظهر في قصيدة "عندما نقمت علينا الريح" التي اعتمدت على بلاغة المشهد وتوليف علاقات بين اللقطات بعضها ببعض. ونجحت لغته الشعرية - التي هي جوهر العمل الشعري - في خلق الإثارة وجذب القارئ. كما في قوله:
كانت كلمات أخرى تسبح في الفوضى/ وتترنح مثل صبي متعوس/ أدركه الليل/ ولم يقطف من شمس الظهر سوى الحسرات. (الكاهن والكلمات)

(قمر في دورق)
     يقترب ديوان (قمر في دورق) 2018 للشاعر حسام الرشيد من أجواء ديوان (عندما نقمت علينا الريح)، فإحساس الحزن والألم طافح في قصائده، وما يؤجج هذه الأحزان في الغالب هو العودة للذكريات التي يقع الشاعر تحت تأثيرها، هذا الديوان كاشف بصورته العامة عن تحولات الذات بين الماضي والحاضر وتأملاتها لوجودها في وسط حالة من الحيرة والاغتراب.
    بداية قدم الشاعر في هذا الديوان شكلي القصيدة (الشطرين والتفعيلة) إضافة إلى جزء أسماه (حوارية) هي عبارة عن فقرات يكتبها بلغة أقرب إلى اللغة الشعرية تأتي بعد لازمة تتكرر في بداية الفقرات وهي: قالت أحبك، قلت تأخرت كثيرا. هذه الحوارية جاءت أقرب إلى قصيدة النثر، وتركّز موضوعها على حالة الحزن والاحباط التي تجعله في عجز عن الدخول في الحب مرة أخرى.
    أما قصائد الشطرين فقد احتفت بالشكل التقليدي، من خلال اعتمادها على المفردات والتراكيب المعتادة في القصيدة التقليدية كالطلل والرحلة والناقة والهودج والعيس وغيرها، والملاحظ أن الشاعر لا يلجأ إلى هذه الاجواء التراثية غالبا إلا في هذه القصائد في ديوانه، وهي قصائد دارت في معظمها حول الحب العذري وما فيه من وصف لوعة العاشق وإحساسه بالمرارة للفراق وفيها يقدم الأوصاف المثالية المعتادة للمحبوبة وصعوبة الوصول إليها، لكن التجديد الذي قدمه الشاعر في هذه القصائد هو تطويعه أحيانا لهذا الشكل التقليدي ليستوعب معان ومفردات حديثة وصورا غير تقليدية، كقوله:
 ولكم زرعنا الشعر في الأحداق موزوناً مقفى
ولكم تعربشنا من    الأشجار زيتونا وحلفا  (ويح الظباء)
    لكن الجزء الأهم في الديوان هو قصائد التفعيلة، التي كانت بنيتها محكمة ومترابطة في الغالب، وهي ذات بناء يسهل على القارئ إدراك معالمه، حيث تقسم القصيدة في الغالب إلى مجموعة من المقاطع، وكل مقطع يبدأ باللازمة ذاتها التي تكون غالبا هي عنوان القصيدة أو مرتبطة به بشكل واضح، وينتهي كل مقطع بالقافية ذاتها. وهذا الشكل ينطبق على قصائد (قمر في دورق) و (أرِق) و (كأني سراب السراب) و (استفاقات) و(عادات) و (لا أبالي) و (عوليس مرة أخرى) و (العابث الأزلي) و (في الحديقة) و (أسير وحيداً) و (ميراث) و (اعتياد) و (وحدنا) و (الصعود إلى الفلك الأخير) و (خمس دقائق).
والحقيقة أن هذا البناء الشكلي للقصائد أعطى الديوان ميزة واضحة، وجعله يتناول موضوع القصيدة من جوانب متنوعة، وأدى إلى مزيد من الترابط بين أجزاء القصيدة، بحيث يكون العنوان محور القصيدة تدور في فلكه مقاطع القصيدة كلها.
    ولا يخفى على قارئ هذا الديوان العناية بتشكيل الصور التي تطور المعنى وتنقل المشاعر بدقة، بحيث تكون أداة للنقل والتعبير الذي يثير الدلالات والإيحاءات ويبعد الشاعر عن الوقوع في شرك التعبير المباشر الذي يقوض البناء الشعري، وقد استند بناء القصيدة كذلك على الأساطير والتراث والتاريخ، فاعتمد على قصص الأنبياء مثل موسى ويوسف ولوط ونوح، والأساطير كسيزيف وعوليس وبنيلوب وغيرهم، وهذا ما حقق ثراء دلاليا في القصائد.
هذا الإئتللاف الشكلي رافقه كذلك ائتلاف في الرؤية، فالجزء الأكبر من رؤية الديوان تتمحورحول الماضي الذي يتجلى ببعدين اثنين هما: حالة الزهو والألق والانطلاق، وهي الحالة الأولى تكشف عنها القصيدة التي يحمل الديوان عنوانها "قمر في دورق" فهذه القصيدة تبين في مقاطعها الخمسة الأولى حالة الزهو والاحساس بتفرد الذات في الماضي حتى تصل إلى درجة النرجسية، يقول:
 قبل عشرين عاما/ كنت/ أمير السماء/ وهودجها الأزرق/ نخلي سامق/ ولسرجي عنان السماء.
لكن هذه الذات التي يحدّها الوجود كما يحدّ الدورق قمرا فيه، لا تلبث أن يغيرها الحاضر ويقلب سعادتها حزنا، وهي رؤية ربما تكشف عن حالة السذاجة التي يبدأ الانسان بها في مواجهته للحياة التي سرعان ما تصطدم مع الواقع كلما تطور الوعي الانساني، يقول:
بعد عشرين عاما/ ..  .....  / نبيذي مراق/ وقلبي/ في آنيات الدمع/ م م ز ق.
ويبدو ذلك جليا أيضا في قصيدة "استفاقات"، وهي تظهر الذات في لحطة استفاقتها ورؤيتها الحقائق بدلا من الأحلام، مظهرةً بذلك قتامة الحياة وأحزانها وما تركته من خيبة لدى الشاعر، يقول:
أستفيق على قمري/ شاحباً/ يحتسي موته/ في المساء الحزين. (استفاقات)
   أما البعد الآخر للماضي فيبرز من خلال الذكرى المثقلة بالخيبات والأحزان، هذه الذكرى التي يقع الشاعر تحت وطئتها، تكبله فلا يستطيع الفكاك منها أو الانطلاق إلى آفاق أخرى، يقول:
هي الذكرى/ - لا مفرّ - / تقص جناحي / تنفحني/ موتها العلني/ وتدرجني/ كفنا من غبار/ يكلل / رأسي بالأشواك/ ولا يمحو/ عن قلبي التعب.  (أرق)
بل إن الذكرى هي أساس مأساته التي تسرق ثمار عمره كالثعالب، يقول:
أشهد ألا فجيعة/ إلا الذكرى/ ثعالبُها حول مائدتي تصطفّ/ كي أدلّي/ لأشداقها الحمراء/ سلال العنب.    (أرق)
 وهذا التعلق بالذكرى هو ما يقود الذات إلى التلاشي والانحسار التي تصل به إلى أبعاد صوفية زاهدة في الوجود كما في قصيدة "أنا في سراب السراب" التي يقول فيها:
كأني سراب السراب/ وأحسبني/ حنظلا في شقوق الصخور/ ونافذة لبكاء السماء/ ..../ وأحسبني/ - لو تشائين - / حلاجَ هذا الزمان/ على جسدي جدول من دماء/ وأرجوحة من عذاب.   
أو تقوده إلا اللامبالاة التي تكون حصيلة الخيبات المتتالية، فهو لا يبالي بالغدر من الآخرين، حتى إنه لا يبالي بالموت أيضا ويراه طريقا للعبور في لحظات يأسه يقول:
لا أبالي/ إن رموني إخوتي/ في قاع بئر/ مشرِعاً صدري/ لآلاف النصال/ ضاحكاً/ حتى حسبت الموت جسراً/ للحياة.   (لا أبالي)
يستدعي الشاعر من الرموز والأساطير والشخصيات التاريخية ما يوافق الرؤية، فيستند على قصة هابيل وقابيل، الجريمة الانسانية الأولى الدالة على الغدر والحسد المتجسد في النفس الانسانية:
أيها العابرون إلى حتفكم/ ما تزال الدماء على وجه هابيل/ فوق الدروب تسيل/ تطلّ كأشباح ليل على عرسها الدمويّ/ وتخبزنا في العشيات.   (كأني سراب السراب)
كما يتكئ على المعرّي بما يرتبط به من دلالات التشاؤم والانعزال:
فليت المعرّي ما زال أعمى/ ليخطو على قبرنا/ خطوة ثانية/ ويورثنا محبسيه وذاكرة من رماد.   (كأني سراب السراب)
ويجد في عوليس قناعاً له في محاولته للتعبير عن حالة الحيرة والاغتراب الدائم لرفضه التأقلم مع واقعه وبحثه المستمر عن الحب ولو كان قليلا، يقول:
إلى غير عود ستمضي/ تشيعك الساحرات إلى غابهنّ البعيد/ قليل من الحب يكفي/ فمرحى لهذا القليل.  (عوليس مرة أخرى)
   وهو المعنى الذي تحمله كذلك قصيدة "أسير وحيداً" حيث الخطى المبعثرة التي تمتدّ في الضياع. أو قصيدة "غريباً أراني" .
   كما أن حالة الانكسار والاحباط الجماعي التي تشابه تجربة الذاتية، تظهر من خلال قصيدة "في البدء كنا" وترصد تحولات الأمة من القوة إلى الهوان، حيث يقول:
في البدء كنا/ سادة الدنيا/ ألسنا خير من ركب المطايا/ ......   والآن في الظلمات ندفن ظلّنا/ فلربما يتراقص الأقزام/ فوق قبورنا.  
   هناك بعض القصائد التأملية التي تحتفي بتصوير المشهد وكأنه ينقل لنا بعدسة الكاميرا مشاهد بتفاصيلها ودلالاتها، كما في قصيدة "غرفة الشاعر" التي ترصد كل تفاصيل هذه الغرفة وتنتهي نهاية مأساوية بغياب الشاعر وعدم تقدير انتاجه:
غرفة الشاعر/ في رحيق الختام/ طوت/ قمح أحلامها/ والحطام حطام/ رمت/ حبق الأغنيات القديمة/ حين أتو/ فوق أحصنة الليل/ أبالسة أوغاد/ رموا حيوات أبيهم/ لتجار لخرداوات وما يبقى/ باعوه "كراكيب"/ في أسواق المزاد. (غرفة الشاعر)
 وعلى النمط نفسه تأتي قصيدة "في الحديقة" فترصد ما يعجّ في الحديقة من حضور والتي تنتهي أيضا بالشعور برتابة الحياة التي تستدعي أسطورة سيزيف، في مثل هذه القصائد ينقل لنا الشاعر المعنى عبر تصويره لمشهد مكثف وبلغة تهتم بالتفاصيل الدقيقة المعبّرة. من جانب آخر تقدم بعض القصائد كقصيدة "العابث الأزلي" رؤية ساخرة مصدرها اليأس بسبب حجم الكوارث في العالم، فالشاعر يحمل نفسه ما في الكون من عبث وكوارث الانسان عبر رصده بلغة شعرية مكثفة لصور الخراب والتدمير في العالم.

(قناديل الشوارع)
    في ديوان "قناديل الشوارع" 2012 للشاعر د.علي المومني، نجد أنفسنا أمام تجربة لكتابة قصيدة النثر، والتي ما زال موضوعها إشكاليا في الدراسات النقدية، حيث الغياب الكلي للإيقاع الخارجي الذي شكل ركناً أساسيا في تاريخ القصيدة العربية، هذا الأمر دعا شعراء قصيدة النثر للتركيز على جوانب إيقاعية أخرى داخل القصيدة تعوّض الإيقاع الخارجي، يلاحظ قارئ ديوان (قناديل الشوارع) ظاهرة التكرار وخاصة لعنوان المجموعة "قناديل الشوارع" في القصائد، مما يضمن نوعاً من التناسق والترابط. 
     يتشكل الديوان من عدد من القصائد التي تبدأ وتكرر في أغلب مقاطعها لا زمة "قناديل الشوارع" وغالبا ما تنطلق هذه القصائد من الفكرة ذاتها في البناء الشكلي، بحيث تكون قناديل الشوارع هي المحور الذي تدور حوله مقاطع القصيدة من خلال جمل قصيرة تعاين حضور هذه القناديل وتمثيلاتها، وتشابه هذه القصائد إلى حدّ كبير يطرح سؤال حول سبب فصلها بقصائد مختلفة، مع أنها يمكن أن تكون مقاطع ضمن قصيدة واحدة دون أن يسبب ذلك تفككا في وحدة القصيدة، ولتوضيح هذا الرأي سأقدم بعض المقاطع من قصائد متنوعة في الديوان، فعلى سبيل المثال يرد هذ المقطع في قصيدة "عويل" :
قناديل الشوارع/ تكسرها الريح/ والألسنة الغريبة.
ويرد في قصيدة "رماد" مقطع يقول:
قناديل الشوارع/ الضوء يبهرها/ والعتم مثوى العابرين.
ويرد هذا المقطع في قصيدة "أخوة يوسف" سنابل ..1:
قناديل الشوارع/ يؤرقها الموت والسكون/ الرهيب/ وبكاء الطيور/ الغريدة.
فالملاحظ أن هذه المقاطع تأخذ البناء الشكلي نفسه بحيث تأتي جملة فعلية أو اسمية بعد اللازمة المتكررة قناديل الشوارع، وهي جمل تعاين حضور قناديل الشوارع وما تثيره من دلالات.
   بل ربما تأخذ مقاطع في قصائد مختلفة نفس المعنى والدلالة ، على سبيل المثال صورة قناديل الشوارع تحت وطأة الانتظار والذكريات تبرز في مقطعين متشابهين في قصيدتين مختلفتين وهما:
قناديل الشوارع/ أتعبها الانتظار والفراغ/ وزقزقات النخيل/ والدموع .  (عراة)
قناديل الشوارع/ أرهقها الانتظار ورائحة/ الخبز/ على الأرصفة.   (انتظار)
كما يغلب على بناء القصائد في الديوان تقسيمها إلى مقاطع قصيرة تكون جملة في الغالب، لكن العلاقة بين بعض المقاطع لا تبدو واضحة مترابطة في بعض الأحيان، ومثال على ذلك قصيدة "انطفاء" التي قول فيها:
(1)           ارتدّ الظلم/ في بؤرة ليل/ واختبأت خلف/ القهر الأسود/ نجمة ....
(2)           وسندباد يلهث وراء/ السراب ...../ فيفيق الوهم موتوراً/ في ليل أمرد.
(3)           آبائي انطفأت/ شعلتهم/ والكأس تشربني.
فالعبارة الأولى توحي بنوع من الأمل لاندحار الظلم، لكن يناقضها بعد ذلك غياب النجمة خلف القهر الأسود، أما المقطع الثاني فيشير إلى إحساس الخيبة وفقدان الأمل، حيث السندباد لا يصل إلا للسراب، لذا فلا معنى أن تكون النتيجة أن الوهم يفيق لأن الوهم هو الذي يكون حاضرا في رحلة عبثية ولا يكون نتيجة لها، في المقطع الثالث إحساس بالضياع الفردي أمام حضارة تنهار.
    مثل هذا القصيدة تعطينا نموذجاً للتعبير عن الحالة الشعورية التي قد لا تكون منضبطة تحت منطق محدد، وهذا ما يعبّر عن صعوبة قراءة بعض التجارب في الشعر الحديث، التي تقتضي اللجوء إلى تأويلات - قد تكون بعيدة - لتستقيم القراءة. ينطبق ذلك أيضا على البناء اللغوي الذي ينطوي على قدر من الغموض في بعض القصائد. فثمة علاقات جديدة بين المفردات تحتاج قدر كبير من التأمل لمحاولة الوصول إلى تصور واضح لدلالاتها، من ذلك قوله:
يلف البحارَ تجاويفُ/ سُكْر/ ويغشى النظر/ يستغرق جفن النجوم/ الثقيلة/ لمس المطر. (مطر)
    توزعت الرؤية في الديوان بين التعبير عن القضايا الكبرى في واقعنا المعاصر وما فيه من انتكاسات وتراجع، وبين الرؤى الذاتية التي تركزت حول الحب وظهرت في قصائد متعددة مثل (حلم) و(غرق ) و(أبواب) و (شهقة) و (مناجاة) وغيرها وهي قصائد تعبر عن عاطفة ملتهبة تصطدم بقتامة الحياة ومظاهر الموت، لكنها تظلّ تحاول أن تغير الواقع:
دعيني أذوب اشتياقاً/ وأحمل/ بين ثنايا الهبوب/ خفق اشتعالي.   (مناجاة)
   لكن الرؤية الغالبة في الديوان تشكلت مما تبعثه قناديل الشوارع من دلالات ورموز، والمتتبع لهذه الدلالات لا يجدها متناسقة في الديوان، فقناديل الشوارع تأخذ في القصائد أبعادا مختلفة تصل أحيانا إلى حدّ التناقض، تبدأ "قناديل الشوارع" في الديوان بدلالة ذات بعد إيجابي تتصل بمفهوم الهداية والتنوير وما يتعلق بها من دلالات النجاة في دروب الحياة المعاصرة التي تعاني من الكوارث والظلم والاضطهاد، فتلجأ إلى الذكريات حيث الماضي الجميل في ظل الوضع البائس، يقول:
قناديل الشوارع/ تشتاق هدير/ السهارى/ والحالمين بالرجوع.  (قناديل)
ويقول:
قناديل الشوارع/ تحن/ لليالي القديمة/ في الساحات.   (عطش)
وهي أيضا تستشرف التغيير الآتي وتترقب مجيء الخير في المستقبل:
قناديل الشوارع/ ترقب الغمام/ والحصاد/ وكركرات/ الفرات.  (عطش)
كما أنها تتأمل أن يتغير الواقع وتطمح للحرية والثورة على الظلم:
قناديل الشوارع/ تتوق/ كِسَر الخبز/ وقطع رقاب الجند/ وهم يستفحشون/ الزهر والأطفال/ ويحرقون الشموع.  (عراة)
وتظهر منتمية ومتعاطفة مع قضايا الأمة العربية مقاومة للأعداء:
قناديل الشوارع/ تستمطر حبّاً/ لأطفال قانا والعامرية/ وتسكب/ ألف برميل نفط/ في الجفون البربرية.
لكن هذه الدلالة لا تلبث أن تغيب في بقية القصائد، وتستبدل بها دلالات سلبية مناقضة لدلالاتها الأولى فتصبح رمزاً للظلام فهي "تلتهم بقع الضوء" (عويل)، وهي رمز للخراب والتدمير "وتمجّد السماسرة والعبيد/ والدمار" "تمدّ أياديها لخنق حضارة بابل/ واشعال المعابد بالضجيج/ والدماء". (رماد) وهي مصدر للآلام والأحزان "تخزن في عينيّ دموعاً/ رقيقة/ وتعلق في حنجرة النخل غصة/ وعويلا". (اغتيال) بل إنها "تغتال الفرح المستحيل" و "الفرح يحزنها" (اغتيال)
من جهة أخرى تبدو صورة أخرى لقناديل الشوارع في الديوان، حيث تكون واقعة تحت حالة من البؤس والموت والضعف والانتظار، يقول:
قناديل الشوارع/ أنينها يفوح.../  وضوؤها يبوح/ بالعطش.  (عطش)
   يظهر الشاعر في كثير من قصائده متكلماً بضمير الأمة التي تعاني من الويلات والخيبات، والتي تحمل إرثاً عظيماً يظل يستنهضها رغم الانكسارات والحروب والتخلف. وأحياناً ينقم على حالة التناقض بين الإرث الروحي وحالة الانكسار لدى الأمة، ففي قصيدة "المآذن" يحاول أن يشير إلى هذا التناقض بقوله:
2- أيّ سماء تسمو فيها/ الروح النازفة...؟/ في بلاد/ صارت النواهد فيها/ متعة للدخلاء. 3- ورعاة البقر يطئون/ كرامات الجنيد/ يستمتعون ... في حرق/ ألف ليلة وليلة. (مآذن).

(أنهار تحترق)
    في ديوان "أنهار تحترق" 2016 للشاعر الدكتور عطا الله الزبون، نجد أنفسنا أمام عاطفة جياشة وإحساس رهيف بالحب والطبيعة والتفاصيل الصغيرة التي تلتقطها عين الشاعر وتحاول التأمل فيها بحيث تكون معادلا أحياناً للشاعر ذاته، كما يظهر في قصيدته "عشق الغيم" التي يحاول من خلالها استنطاق ما حوله من الموجودات ويسبغ عليها ما في نفسه من اندفاع وحب وشوق، يقول مصورا الغيم:
يسافر بين جدائل الشجر/ عطراً وهو للجبال لثام/ يعشق وطني وينتظر العائدون[ين] من المدارس/ ويغازل الجميلات بحلو الكلام/ غمام مثل الجندي الهمام/ انتظره فوق السفح وفي دروب الريام.   (عشق الغيم)
وكذلك تبدو مظاهر الطبيعة التي يحفل فيها ديوانه متجسدة ناطقة كما في قصيدة و"جلنار" و"ترويدة التوت".
    بعض القصائد في الديوان تعبّر عن حالة الوجد والأحزان والشعور بالظلم والغربة التي تخلفها الذكرى والأحزان القديمة (حين تمرمر القلب) وقصيدة (تطوري للجنون) التي يقول فيها:
سجنت تحت جدار الظلم/ تحت سياط الغربة/ سجنت بين أبياتي/ التي دفنت وجعي بين القوافي/ وأحزاني الأسطورية.
    إلى جانب بعض القصائد الوطنية مثل "وطني" و"تبا للبارود" و"لنا برغدان سيوف ورجال" التي يعبر من خلالها عن الانتماء للوطن وتمجيد المقاومة والدفاع عن الأرض.
     لكن أغلب قصائد الديوان هي قصائد غزلية، يحضر فيها العاشق بدوره التقليدي المعذب الذي يعاني من الصدود والبعد ويعيش على أمل اللقاء، لذا لا نلحظ تجديداً في الرؤية في موضوع العلاقة بين الرجل والمرأة، وتظل خاضعة للمعنى العذري الذي يتضمن المعاناة الدائمة واستحالة اللقاء واستعذاب الألم في سبيل العشق كما يظهر في قوله:
أتمنى قطرة من مرك/ تمرّ بي كي أحزن.  (قطرة مر)
وقوله:
يتقد في قلبي جمر الفراق/ أتقلب بين ذكرى تسرق دمعي/ وبعد يتركني مشنوق[اً] في صورك/ التي أوجعت حياتي/ وأثقلت سمعي/ يا عشقي الذي بددته الشمس/ ويا مري الذي تركني بلا مذاق/ أشتهي مرك وسياطك في إحساسي القديم.   (أشتهي مرّك)
    لكن مع هذا التوهج في المشاعر إلا أنها نقلت بلغة أقرب للنثرية لا ترقى في بعض الأحيان لمستوى التعبير الشعري بما فيه من جماليات، فتشكل بناء القصيدة في الغالب من خلال دفقات شعورية وتأملية دون أن يكون هناك بناء محكم يضبط الانفعالات ويقدمها بصورة جمالية.
    تخلى الشاعر عن الإيقاع الخارجي وكتب قصيدة النثر، ومن المعروف أن غياب الإيقاع التقليدي في القصيدة يتطلب من الشاعر أن يعوّضه بوجود إيقاع مناسب آخر كالقوافي والايقاع الداخلي كالتناسب بين الجمل والتكرار وغيرها، لكن االشاعر لم يستثمر الطاقة الإيقاعية بالشكل المطلوب فجاء ضعيفاً باهتاً، ورغم أن هناك لجوء للقوافي إلا أنه بدا أنه اقحام لا يقدم دلالة مناسبة في سياق القصيدة كقوله: 
إني أحبك كلما قلمي قادني إلى الدفتر/ إني أحبك كلما جادل الماء السكر/ إني أحبك كلما رأيت سرية عسكر.   (وتقولين وداعاً)
    وربما يعزى ظهور هذا المستوى في بناء القصيدة في هذا الديوان إلى أن الشاعر في الأساس هو صاحب تجربة ثرية في الشعر الشعبي النبطي، ومن الواضح أن محاولة نقل القصيدة الشعبية إلى قصيدة فصحى تفقدها كثير من الجماليات والقدرة على التأثير، فكل نوع من الشعر له منطقه ويتفرد بقواعده وأسسه. ويمكن أن نعاين هذا البون بين النمطين حين نقرأ له قصيدة نبطية كقصيدته "الورَق والورِق" التي يقول فيها:
ماضية سنين مقبلة بلياليك    وباقية كل ليالي كنت فيها
انت الحبيب الصاح صوتي تعداك  ما بي وداع بيد طوقتني فيها
عطشت زروع عافها الجذر لولاك    انت الورَق والوِرق والهوا فيها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق