‏إظهار الرسائل ذات التسميات أوراق نقدية - موسم عرار. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات أوراق نقدية - موسم عرار. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 26 أغسطس 2020

صور من الواقعية، والتجريبية، والنسْوية في عشر مجموعات قصصية من محافظة جرش


في جماليات القصّة القصيرة الأردنية الراهنة:
صور من الواقعية، والتجريبية، والنسْوية
في عشر مجموعات قصصية من محافظة جرش

 أ.د.محمد عبيد الله

ما زالت "القصة القصيرة" تحظى بمكانة بارزة بين الأنواع الأدبية والسردية، وتجتذب كتّاباً وقرّاءً متعددي المذاهب والمشارب، يجدون فيها شيئاً من ضالّتهم المعرفية والجمالية؛ ذلك أنها تتلاءم مع طبيعة العصر الراهن وتتجاوب مع سمات السرعة والتفكك والتجزئة. وإذا كانت قد اكتسبت كثيراً من سماتها -في القرن العشرين- من خلال الجمع بين جذورها الحكائية والأسطورية والواقعية من جهة، وما فرضته الصحافة الحديثة من انطلاق اللغة وتحرير الأسلوب، فإنها قد وجدت في العقود الأولى من الألفية الثالثة ملاذاً جديداً تمثّل في إمكانات وسائل الاتصال الجديدة، وفيما أتاحته شبكة "الانترنت" من تحديات وفرص متزايدة، أدّت إلى تغييرات وتحويرات كثيرة على مستوى الرؤية والتشكيل.
تكوّنت القصة القصيرة العربية مستندة إلى عوامل ومؤثرات كبرى من أبرزها: أثر الأشكال السردية القصيرة التي حفل بها الموروث العربي، وأسهمت حركة نشر الكتب وتحقيق التراث في إعادة اكتشافها وتعريف المعاصرين بها، إلى جانب أثر الصحف والمجلات التي رحّبت بمتعة القصة القصيرة لاستقطاب القراء، ولمحاكاة الواقع ولتناول كثير من مشكلات العصر الحديث. وإلى جانب ذلك لا ينكر دور الثقافة الأجنبية ودور الطبقة البرجوازية والوسطى في الإفادة من تطور القصة الأجنبية أو العالمية، ومحاولة استعارة كثير من سماتها وخصائصها لتأسيس نوع عربي سردي تمتزج فيه خيوط التراث والمعاصرة، ويمتلك في الوقت نفسه إمكانات التعبير عن قضايا الإنسان العربي المعاصر، ويعبّر عن تطلعاته.
أما القصة القصيرة الأردنية ففرع متميز من القصة العربية، لم تتأخر في نشأتها المبكّرة عن بدايات القصة العربية، ولم تتخلّف عما واكبها من تطور وتنوّع في المذاهب والأساليب طوال القرن العشرين، وهي حتى اليوم ما زالت تسهم في رسم الصورة الكلّية لتطور القصة العربية، وتقدم اقتراحات جمالية متعدّدة، يبقى للتاريخ حقّ الحكم عليها في ضوء درجات الاتّباع والابتداع فيها، وفي ضوء مقدرتها وصمودها على الفاعلية والتأثير.
وفي هذا المقام نقدّم قراءة أخرى نتابع فيها مسيرة قطاع من قطاعات القصة الأردنية، يتمثّل في عشر مجموعات قصصية كُتبت ونُشرت في السنوات العشر الأخيرة، فهي بهذا المعنى الزمني من أحدث الإنتاجات القصصية التي كتبت باللغة العربية، ومن المأمول أن تمثّل شيئا من اهتمامات القصة العربية الراهنة ومن توجّهاتها المستقبلية. أما الرابط بين هؤلاء القصاصين الذين نتناول إنتاجهم المنشور فانتماؤهم من ناحية الإقامة والسكنى إلى مدينة أو محافظة أردنية واحدة هي "محافظة جرش"، وجاء اختيارها والوقوف عندها دون غيرها استجابة لرغبة فرع رابطة الكتاب الأردنيين في جرش، في تناول الإنتاج الأدبي بالصورة التي يبدعها وينجزها أبناء هذه المحافظة العزيزة.
ولذلك فإننا نعدّ هذه المحاولة النقدية مغامرة غير مأمونة، لأنها لم تستند أساساً إلى اختيار الناقد/الباحث لنماذجه ولما يستهويه من كتابات ناجزة. ولكنها في الوقت نفسه نافذة لاستكشاف جانب حيوي من جوانب حركة القصة القصيرة وحياتها الراهنة، كما تتجلّى في كتابات هذه المجموعة من كتّاب القصة وكاتباتها، وقد يتيح هذا التواصل فرصة لاكتشاف أصوات وتجارب لافتة لم يتنبّه نقدنا الراهن لتميّزها، كما قد يتضمن ذلك اقتراح بعض المداخل والمفاتيح لكيفية قراءة القصة القصيرة وسبل معاينتها والتواصل معها، في ضوء معالم المشهد الأوسع للقصة القصيرة محلّياً وعربياً وعالميّاً.
وإذا كان التقسيم والتصنيف أمر منهجي يساعد على معاينة النصوص الأدبية وعلى دراستها، فقد ارتأينا في ضوء قراءة المجموعات القصصية المحدّدة للدراسة تقسيم هذه المجموعات استناداً إلى العنصر الغالب عليها في ثلاثة اتجاهات على النحو الآتي:
أولاً: اتجاه القصة الواقعية:
ويتمثل في المجموعات الآتية:
1.                      مجموعة "المنجل والمذراة" للقاص عبد الله الحناتلة/2009.
2.                      مجموعة "ربيع في عمّان" للقاص جعفر العقيلي/2011.
3.                      مجموعة "ملح إنجليزي" للقاص علي النوباني/2015.
4.                      مجموعة "مقاطع من سيرة أبو زيد" للقاص شفيق النوباني/2015.
ثانياً: اتجاه القصة التجريبية:
 ويتمثّل في المجموعات الآتية:
1.                      مجموعة "الذاكرة لا تعشق" للقاص ربيع محمود ربيع/2010.
2.                      مجموعة "ذبابة على أنف هولاكو" للقاص حسام الرشيد/2015.
3.                      مجموعة "خيبة" للقاص طارق بنات/2016.
ثالثاً: اتجاه القصّة النسوية:
 ويتمثّل في المجموعات الآتية:
1.                      مجموعة "الفراشة الحمقاء تحترق مرّتين" للقاصة علا عبيد/2004.
2.                      مجموعة تأخّرت جدّاً" للقاصة ماجدة العتوم/2009.
3.                      مجموعة "ما تبقّى من الياسمين" للقاصة لينداء عبيد/2011.


أولاً: اتّجاه القصّة الواقعيّة

يعدّ الاتجاه الواقعي من أبرز اتجاهات القصة القصيرة عربياً وعالميّاً، وهو يدين لمذاهب كثيرة في تطوّره وتشعّبه، من أبرزها الواقعية الاشتراكية التي وجدت في القصة القصيرة بخاصّة والأنواع السردية بعامة نوافذ فنّية لمعاينة الواقع ونقده وتحليله بما ينسجم مع مبادئها وتطلعاتها. وإذا كان المقام لا يسمح لاستعراض جوانب حيوية من تطور الواقعية وتنوعها، فإننا سنحاول أن نعوّض عن ذلك بما يعنينا هنا، وذلك بالبحث عن أبرز السمات والخصائص الواقعية كما تجلّت في المجموعات التي وضعناها ضمن هذا التصنيف.
ولعل بروز المضمون الواقعي وأولويته في مقدّمة ما تُعنى به الواقعية، فهي في خلاصتها مضمونية التوجه والمآل، وقيمة الشكل ومسائل الفن عندها فيما تحمله من مضمون. ومردّ ذلك منطلقاتها الفكرية والاجتماعية التي تُعنى بنقد الواقع وتحليله وتغييره ليتوافق مع ما تؤمن به وتراه فيما يتعلق بصورة المجتمع ومشكلاته وقضاياه. ويتفرّع عن التوجه المضموني/الموضوعي مسألة هامة تتمثل في أن الواقعية اتجاه مرْآوي ينهض على مبدأ محاكاة العمل الأدبي للواقع أو لجوانب مختارة منه، مع إضافات بيّنة يعبّر الكاتب من خلالها عن موقفه ورؤيته. وقد شغلت قضايا "تمثيل" الواقع وآليات التعبير عن التغيير بال نقاد الواقعية، وجادلوا في موقع اللغة ووظيفتها المثلى، بوصفها أداة التمثيل والتعبير في حالة الصورة اللغوية. ولكن في كل حال فإن الواقع والموضوع سابقان على الذات، مقدّمان عليها، والاهتمام بالذات يعد سلوكاً وميلاً "برجوزاي" الطابع، "رأسمالي" الغاية، والأصل أن تذوب الذات في همّ الجماعة وفق توجّهات الواقعيين، وليس من حقّها أن تفسد الموضوعية التي لا مكان للذات فيها.
وفي المجموعات الواقعية التي بين أيدينا نجد حقّاً مجموعة من المضامين الواقعية النمطية أو المتكرّرة: قضايا اجتماعية كالفقر الناشئ عن مشكلات طبقية واختلالات اقتصادية، وكمشكلة العنّة وتأخر الإنجاب في واقع قروي قاس، ومشكلة الطلاق في المجتمعات العربية، وما ينشأ عن الحروب من مشكلات وويلات تؤثر في حياة الناس، وصراع التغيير وإكراهاته بين الريف والمدينة، والاهتمام بهموم الطبقة الفقيرة والمتوسطة مع التأشير إلى الخلل الطبقي بوصفه مفتاحاً لفهم مثل هذه المشكلات وتحليلها..كل ذلك يحضر في هذه الكتابات الواقعية، مع أهمية الإشارة إلى ما بذله القصاصون من جهد في تكييف السمات الواقعية العامة مع الوقائع والقضايا التي تخصّ المجتمع والواقع الأردني والعربي أكثر من غيره، مستفيدين في ذلك من الخبرة الطويلة للقصة الواقعية أردنياً وعربياً، بوصفها الاتجاه الذي تلاءم مع كثرة المشكلات في الواقع العربي، إلى جانب الأثر البليغ لنقّاد "اليسار" وكتّابه طوال النصف الثاني من القرن العشرين.

أ‌. عبد الله الحناتلة: صور من الواقعية الريفية:
لقد استوحى القاص عبد الله الحناتلة معظم قصص مجموعته "المنجل والمذراة" من عالم الريف الثريّ، لا بمعناه أو صورته الرومانسية المتوقّعة، وإنما بالمعنى الواقعي الذي يكشف عن كثير من جوانبه الثقافية والاجتماعية، وكأنما تسعى القصة في مقام أول إلى القيام بدور "واقعي تسجيلي" يتمثّل في حفظ جوانب حيوية من التراث المعنوي والمادي غير البعيد، في مواجهة سرعة التطور والتغير التي أصابت حياتنا، وكادت تحدث تغييراتٍ جبريةً لا تستقيم مع آليات التغيير الإيجابي.
وتلفتنا طريقة تعامل القاص الحناتلة مع المكوّنات الريفية وأسلوب تقديمها واختيارها، فمن ناحية أولى هناك هاجس التسجيل والتقييد الذي ألمحنا إليه، وهو منحى واقعي معروف وحيوي، يفرض على القصة تقديم صورة لغوية تكاد تحاكي تفاصيل الواقع، وتتمثل بلاغة القصة فيما تسجله وتوثقه من تفاصيل قد تكون خفية أو هامشية. ويتعاضد الاختيار الدقيق مع الهاجس التسجيلي مرتكزاً على رؤية المؤلف التقدّمية، رغم ظاهرها الريفي، وعلى ابتداع إضافات ومكوّنات جديدة مضافة لإتمام متطلبات تلك الرؤية. ولعل اختيار عنوان "المنجل والمذراة" يعبّر تعبيراً جليّاً عن بعض مفاتيح الواقع الريفي الذي تعبق به هذه المجموعة، فهما أداتان حقيقيتان ورمزيتان من أدوات العمل الشقيّ المرتبط ببعض وجوه الإنتاج الريفي في موسم الحصاد، ولا نعدّ اختيارهما مصادفة محبّبة، وإنما هو اختيار قصدي منسجم مع المعالجة "الواقعية" للحياة الريفية كما تعكسها هذه المجموعة. نقرأ "المنجل" بوصفه رمزا للفلّاحين وفاعليتهم ودورهم الواقعي بعيداً عن المعالجة الرومانسية التي قد لا تلفتها أدوات العمل والإنتاج، وإنما تتجه إلى مداخل أخرى تتصل بالصورة الخيالية للريف والطبيعة. وإلى جانب ذلك نذكّر برمزية "المنجل" و"المطرقة" في الواقعية الاشتراكية، وهو ترميز يهدف إلى إبراز تحالف الفلاحين والعمال في سبيل بناء المجتمع الاشتراكي.
وفي قصة "دجاجة من ذهب" يقدّم الكاتب بمنظور الراوي الطفل الذي يستعيد جانباً من خبراته القروية، وبشكل محدد ما يتصل بعالم "الطابون" الذي يمكننا أن نعدّه مكاناً أمومياً متميّزاً، وهو يتصل أيضاً بعنصر من عناصر الإنتاج الذي تسيطر عليه المرأة من خلال نظام تقسيم الأدوار وتكاملها. وللطابون دور ومكانة في المجتمع الريفي، ليس كمكان لإعداد مادة غذائية أساسية فحسب، وإنما بوصفه مكانا اجتماعيا تلتقي عنده النسوة ويتبادلن الأحاديث والأسرار والحكايات؛ إنه مكان صالح لــ "المقايضة السردية" التي تعدّ خصيصة كبرى من خصائص السرد الجوهرية، وفي ضوء مبدأ "المقايضة" نقرأ تفرّع القصة إلى مجموعة من القصص الجانبية أو الاستطرادية التي تغذّي سرديات الطابون وتوسّعها، وذلك بإسهامات النسوة المجتمعات حول الطابون.
واحدة من الحكايات الفرعية حكاية أمّ الراوي الطفل عن الدجاجة الذهبية العجيبة وكتاكيتها الاثني عشر التي شاهدتها منتصف الليل وهي عائدة من سهرة الجيران. تطول القصة الفرعية قليلا لوصف غرابة الدجاجة وعجز الأم عن الإمساك بها، رغم مطاردتها الطويلة، ثم تنتهي بتفسير إحدى القرويات في القصة نفسها: "الله يهد حيلك يا مجنونة..هاي غولة الزلمة اللي انقتل هناك". ص13. وهذه العبارات العامية أو المحكيّة التي تتداخل مع الفُصْحى واحدة من مشكلات "الواقعية"، ومصدرها ذلك الحرص على المحاكاة والتمثيل بأفضل صورة ممكنة، ولذلك تغيب هذه المشكلة عن القصص التعبيرية والتجريبية لانتفاء الحاجة إليها.
ويمكن أن نقرأ في صورة الدجاجة الذهبية ضرباً من الحلم الواهم للتخلّص من مآزق الفقر ومعاناته، فمثل هذه الأحلام أو التصورات واردة وكثيرة، ولكن الأبلغ من ذلك أن الراوي الطفل يتحوّل من متلقّ هامشي إلى مشارك وفاعل، حين يقرّر ملاحقة الدجاجة واكتشاف أمرها، مهما كلّف الأمر، فيكمن لها ليلاً وهو يغالب مخاوفه ورعبه مما أوْرثه إياه الحديث عن "الغولة" المعروفة في الوعي الشعبي والقروي، فمضى وراء إغواء الذهب ولاحق الدّجاجة المسْحورة، مستعيناً بآية الكرسي ليكمن للدجاجة ليلة الخميس منتصف الليل لعله يظفر بما عجزت أمّه عنه. لكن الغولة تبقى غولة، ويصعب تحويل الخرافات والسرديات إلى وقائع فعلية، فتنتهي القصّة بفشله في العثور عليها، ولكن في الوقت نفسه يقوّض هذا الفشل خرافة الغولة، لتؤكّد القصة أن مثل هذه الأحاديث والخرافات المتداولة إنما هي للتداول وصناعة الخوف، ولكنها ليست لغايات الواقع المعيش، وليست آلية من آليات تغييره. وهكذا تنتصر القصة للوعي الواقعي باكتشاف الطفل لوهم المتخيّل، وتعارض حكاية الغولة واستحالة تحول الخرافة إلى واقع: "أخذ الصبح يتنفس، يقشع بواقي الليل إلا أن الدجاجة لم تأت، وبدأت أتخيل مارداً طويلاً أقدامه قرب المهاريس ورأسه في السماء". ص15.
وأما قصة "المنجل والمذراة" التي حملت المجموعة اسمها، فمن قصص الأسرة الريفية ومعاناتها، وكثيراً ما يرتبط هذا اللون بمناخات أسرية وعائلية، ذلك أن الأسرة على أهميتها في البيئة العربية كلها، فإنها تكتسب في الريف علاقات أشدّ قوة وتعقيداً، وربما تكون هي البنية الأشد تماسكا وقوة حتى وقت قريب، من هنا يكتسي الخروج منها أو عليها ذلك التخوّف الذي يظهر في السرد الواقعي الريفي.
ويلفتنا في هذه القصة وغيرها ما يمكن أن نسمّيه بـ "الواقعية الريفية" التي تناقض الاتجاه الرومانسي الذي غلب على الكتابات التي اتخذت من الريف موضوعاً لها. وفي ضوء هذه النظرة الواقعية النقدية تتكشّف التنوّعات والصراعات في الريف، فهو ليس مجتمعاً موحّداً منمّطاً، وإنما هو شأن أي مجتمع آخر فيه صراعات وتناقضات ومكائد واصطفافات. ولقد كسر القاص إذن أفق التوقّع الرومانسي المرتبط بالريف، ونجح في تقديم صورة داخلية تكشف عن تعقيداته وتناقضاته.
لقد ضاقت القرية على ابنها الذي تعلم بجهد جهيد من والده، إلى جانب حماية روحه المتمرّدة، وها هو يغالب رغبته في السفر وحزنه على احتضار أبيه، ثمة أصوات تثبّط من همّته، وتدعوه "ليضع رأسه بين الرؤوس"، بينما والده المحتضر يأذن له بالرحيل، كأنما يشجّعه على مواصلة تمرّده ومقاومته للواقع بكل قواه المتسلّطة اجتماعياً وسياسياً.
والعلاقة بين الأب والابن في هذه القصّة علاقة مغايرة لفكرة "السلطة الأبوية" التي تسلّطت على سردنا المعاصر، وحبست الأب في صورة تقليدية، وغدا التمرد عليه رمزاً كلّيا للحرّية والتقدم. قصّة الحناتلة تقدم نموذجاً مغايراً للأب الذي يزرع التمرد والمقاومة في روح ابنه ويرعاه ويحميه، رغم وجوه المعاناة المتعدّدة التي يجابه أعباءها.
وعلى مستوى الأسلوب اعتمد الكاتب على السرد والوصف والحوار والتداعي، فطبقة السرد محدودة من ناحية تقديم الوقائع والأحداث، لكن الطبقة الأساسية التي تنضج القصة في ضوئها هي طبقة التداعيات التي تبدأ من جملة حوارية بسيطة، لكنها تغادر حواريّتها لتتحوّل إلى ذكريات واستعادات مركّبة يتكسر فيها الزمن أمام حدّة المعاناة وأثر الصور التي تغالبها الذاكرة.
ويمكن أن نرى في قصة "صاحب الهالة" جانبا آخر من "الواقعية الريفية" التي أشرنا إليها، وهي هذه المرّة من منظور الفتاة الريفية الجامعية التي تتشارك مع رفيقاتها الريفيات حواراً "حول الدال والمدلول والدلالة"، وهي مصطلحات "أكاديمية" استوحتها الفتيات من دروسهنّ الجامعية، لكنها تكيّفت بمهارة مع الواقع الريفي: "قالت: على الدور.. وكوننا ريفيات سنناقش كلمة الريف لدى كل واحدة منا". ص57. وتقدّم الفتيات إجابات دالّة على تنوع الريف من منظورات متنوعة، من بينها إجابة "رومانسية" تمثّل منظور فتاة المدينة التي لا تعرف الريف إلا من خارجه وأشجاره.
وتتغذى القصّة على "الصور السردية"، فالقصة السابقة تبدأ بفقرة تصويرية تمثل صورة سردية موازية، تتمثل في مشهد عصفورين يتعانقان ويتناغيان على أغصان شجرة قريبة. وبعد تقديم المشهد نجد الفتاة (أحلام) تراقب المشهد، وكأنما يُعديها هذا العناق الكوني فتتنبه بحثاً عن "عصفورها" الخاص، فتسقطه على شاب قريب يتوسط أصدقاءه بمرح لافت، فترى فيه مشروع عصفورها الغائب أو المنتظَر. لقد بدت الصورة السردية الطويلة أشبه بمقدمة "طللية" تهيئ لما بعدها، وتضع القارئ في الجو العاطفي الذي مالت إليه القصة إلى جانب مناخاتها الريفية المؤثرة.
وتعاود صورة العصفورين الظهور مجددا، كأنما لتنظّم إيقاع القصة أو تذكّرنا بمناخها العاطفي، ولتشجّع الفتاة أحلام على الاقتراب من عصفورها المنتظر، وتتقدّم خطوة وهي تعدّ الخطط في كيفية اصطياده:  "سأتدرّب طيلة الليلة على ترقيق حرف الراء، وعلى كسر حرف الكاف عند السؤال عن الحال، سأحشو كلامي (واو)..سأردتي البلوز الضيق برتقالي اللون وبنطالي ذا اللون السكري...". ص60.
 يتضمن هذا "السيناريو" أدوات التغيير الواهية، كما تتخيّلها الفتاة الريفية: تغيير اللهجة والتحول إلى لهجة المدينة، إلى جانب تبديل الملابس، أي أنها تغييرات في المظهر في ظل صعوبة تغيير "الجوهر" دفعة واحدة. وعندما تتجرأ على محادثة الشاب الجذّاب تكتشف أنه شابّ ضرير، يضطر لإطالة الجلوس في هذا المكان حتى يأتي من يقوده أو يساعده.  قد تكون هذه النهاية الحادّة قاسية بعض الشيء، ولكنها في قسوتها تحمل أيضا رؤية أو موقفاً يتصل بفشل الخطط التي فكّرت فيها الفتاة، فليس الأمر ترقيقاً في الأصوات ولا تغييراً فيما ترتديه، ولا في الحديث العابر مع شاب جميل لفت انتباهها، وإنما الحياة في القرية والمدينة أعقد وأصعب، ومشهد العصفورين المرِحين على الشجرة مشهد رومانسي جميل لكنه ليس نموذجيا للحياة الإنسانية الواقعية.
ومن أمارات الواقعية الكاشفة أن صلة القرابة في قصة "قطف عنب" لم تتمكّن من إخفاء التعارض الطّبقي، بل بدا التعارض حادّاً بين البعدين. فالخال الغنيّ يزور الأسرة في كوخها الفقير لتفقّد أخته وأسرتها، "أمي تعانق صاحب الصوت الذي تقول إنه خالي، أبي يتصاغر أمامه، وسيارته تكبر كوخنا. يحملني صاحب الصوت يقبّلني ويدعني إلى الأرض التي عشقت أقدام أبي فلم يبرحها أبدا...أين الأولاد؟ سألت أمي. لكنه لن يحضرهم خشية أن تزكم أنوفهم رائحة كوخنا". ص28.
تولد الغربة بين الفتى وخاله نظراً للفارق الطبقي، الذي لم تلغه أو تخفف منه صلة القرابة القويّة، ويقْدم الفتى لاحقا على كسر نافذة السيارة وهو يحاول أن يحصل على قطف عنب رآه متدلياً داخلها، ثم تبيّن له أيضا أنه "عنب بلاستيكي" مما يستعمل للزينة، وهو موقف شبيه باكتشاف الفتاة أحلام أن فتاها ضرير لا يرى، وشبيه باكتشاف الفتى وهم الدجاجة الذهبية، بقصد أن تكون هذه الصدمة سبيلا للصحو، وأننا لا نحصل على ما نريد خارج مواضعات الواقع وقوانينه الجدلية.
يمتلك عبد الله الحناتلة موهبة حسنة في كتابة القصة القصيرة، فلديه مقدرة على اشتقاق موضوعاته الحيوية من الواقع منتبها إلى قضايا اجتماعية وواقعية متنوعة، وإلى غنى عالم الريف بكثير من الموروثات والأعمال والطقوس، وغالبا ما يعالج تلك الموضوعات باهتمام وجدية، حتى تبلغ الحدود الفنية المأمولة التي يفرضها نوع القصة القصيرة، وهو يوازن بين السرد والحوار والوصف، ويستعين بالتداعيات والأحلام والصور في سبيل تكوين البناء النهائي للقصة، والوصول إلى التوازن بين الشكل والمضمون، وكثيرا ما نجح في مسعاه، ليقدم للقارئ مجموعة ممتعة جديرة بالقراءة والإشادة.

ب‌.                     جعفر العقيلي: خير السرد الواقعي المحكّك
نشر جعفر العقيلي إنتاجه في أربع مجموعات، تحمل العناوين الآتية: ضيوف ثقال الظل/2002، ربيع في عمّان/2011، تصفية حساب/2014، كمّستير/2015. ولكن مراجعة هذه المجموعات تفضي إلى ظاهرة غريبة تتمثل في إعادة نشر بعض القصص في أكثر من مجموعة، وكأننا أمام مجموعة واحدة أو اثنتين تعاودان الظهور بعناوين مختلفة. فمجموعة (ربيع في عمان) مثلاً تضم قصّتين من قصص المجموعة الأولى وهما قصة: ضيوف ثقال الظل، وقصة انتصار (وهي نفسها قصة: الجولة الأخيرة، أي أنه غيّر عنوانها في المجموعة الثانية!). أما القصص الستّ الإضافية في المجموعة فعاودت معظمها الظهور مع قصص أخرى في مجموعة (تصفية حساب)، ومجموعة (كمستير). وهذا التكرار ليس أمراً هيّنا في نظرنا، خصوصاً وأن الكاتب لا يعلّله ولا يشير إليه؛ فهو –من جهة- يوهم القارئ بالجديد وما هو بجديد، مستفيداً من ضعف ذاكرة القراءة الراهنة. وهو أيضا يعصف بمبدأ المجموعة القصصية التي نفترض أن اختيار قصصها وترتيبها في كتاب واحد ليس أمراً عشوائيا إلى الحدّ الذي يسمح بمثل هذا الصنيع الغريب.
وإذا تجاوزنا هذه المشكلة، واكتفينا بقصص "ربيع في عمّان" فيمكن الالتفات إلى أن جعفر العقيلي يحرص على كتابة قصة "أنيقة" بالمعنى الفني، وتمثّل تنويعاً آخر على أنغام الواقعية، لم تكد تندّ عنها، إلا في القصة الأخيرة "دُوار-مقاطع من تكتكة"، بحيث يبدو كل شيء مهندَسا مرتّباً فيها، بما في ذلك بعض الحركات وعلامات الترقيم، وتبدو فيها آثار معاودة النظر والمراجعة والتخطيط والتأني، وكل ذلك لا غبار عليه، وإنما هو وصف لطريقته في الكتابة، مما نستنتجه من قصصه، وكأنه يعود للقاعدة القديمة لتيار الحوليات والصنعة الشعرية، ويطبّقها على السرد القصصي، ليؤكد أو يثبت أن "خير السرد الحوليّ المحكّك". ولكنّ هذا "التحكيك" قد لا يكون مأموناً دائماً، فقد يُفضي إلى جفاف ماء القصة، ونقصان عنصر التلقائية فيها، بحيث تتزايد آثار الصنعة حتى تغلب عليها، فتغدو القصة نموذجاً مدرسياً في أفضل أحوالها؛ تخلو من المناطق الهشّة، ومن الضعف البيّن، ولكنها في الوقت نفسه تتسم بـ "الاعتدال" و"التوسّط"، وتفتقر إلى تلك الفلَتات السردية، وذلك القدر من الجموح والإثارة الفنية التي تلفت انتباه القارئ وتشدّه إلى إنتاج كاتب من الكتاب.
وينسجم هذا التوجّه المبنيّ على التخطيط الواعي مع المنحى الواقعي الذي نراه أنسب اتجاه تسير فيه قصص العقيلي، فسرده واقعي في موضوعاته ومعالجاته، وأما اللمسات التعبيرية والنفسية هنا وهناك، فهي مما تسمح به الواقعية، ولا تلغي الصفة الواقعية العامة، لقلّتها من جهة، ولأنها ترد في سياق خدمة المغزى الواقعي في أغلب الأحيان.
  في قصة "علامة فارقة" يتولّى السارد المتكلم تقديم تجربته أو قصّته، وهي ليست قصة أو تجربة ضخمة أو عريضة، وإنما هي علاقته مع شعرة بطول "سنتمتر" واحد ظهرت بشكل ناشز في جبينه، وبدلاً من إزالتها وإهمالها استرعت انتباهه، وروى لنا في قصته حكاية هذه العلامة الفارقة التي رعاها أيما رعاية، ليقدم درساً في السرد الممتع، وإمكانية أن يتأسّس على المتناهي في الصغر والهامشية، إذا تم تقديمه بطريقة فنية واعية. لقد شغل الراوي نفسه بشعرته وشغلنا معه، وخاض معاركات مع أصدقائه وزوجته، وهو يدقّق في علامته، مدافعاً عنها تارة بالكلام وتارة بالفعل والرعاية المستمرّة.
يغرينا الراوي تدريجياً وهو يعترف بأن الشعرة لم تلفت انتباهه أول الأمر، لكن شيئاً فشيئاً صارت لافتة للانتباه على صِغرها وهامشيّتها، وهكذا يخترع ملابسات وتأمّلات وتفاصيل مغرية بالقراءة والمتابعة، حتى ننسى أن هذه الصفحات الست مدارها الشعرة الصغيرة التي لا تكاد تبين. ولا يستعين الراوي والكاتب من ورائه بعناصر خيالية أو مخترعة، وإنما يتلاعب عبر اللغة بمقدار الأشياء، فيجعل من المتناهي في الصغر عنصراً مكبّراً أو متناهياً في الكِبر، من خلال انشغال الراوي بشَعرته، ومن خلال ما يضفي عليها من أوصاف واهتمامات، وما يخوض في سبيل الحفاظ عليها من جولات.
وبدا اختيار الراوي المتكلّم الذي يسرد بطريقة سيرية ذاتية اختياراً موفّقا يتلاءم مع طبيعة التجربة وعلاقة الراوي بالوقائع المرويّة. كما بدت السخرية المكتومة متفجّرة من بين السطور، وخصوصاً في مواقف المبالغة، ونذكّر هنا بأن الصورة الساخرة المثيرة للضحك كثيراً ما تتولّد بسبب التكبير أو التصغير، أي عبر التلاعب بالأحجام والأطوال والأوزان، وقد راعت القصة ذلك في تناولها لسيرة الشعرة. ففي موقف الحوار مع الزوجة المغتاظة يقول الراوي: "لم تستجب الشعرة لمحاولات إعادتها إلى (بيت الطاعة)، فظهرت بوادر النقمة على محيّا زوجتي، وانقضّت عليها كأن بينهما خصومة عنيفة. إزاء الموقف الدرامي المتصاعد، من الطبيعي ألا أصمت، فالأمر متعلق بي في المقام الأول! لذا فاجأتها أهدد بسبابتي: إنها مسألة حياة أو موت، وأضفت خافضاً من وتيرة صوتي كأنما أؤدي دوراً مسرحياً: من حقها أن تعزف سيمفونيتها على هواها، ولا بد أن نتقبّل هذا. وأمعنت في الدور قائلاً: لقد استوت على عرش تمرّدها. لنكن حضاريين معها يا عزيزتي". ص11. في نهاية الأمر يخسر الراوي شعرته عندما تهاجمه زوجته، وتُغِير على علامته الفارقة لتتخلّص من الأزمة التي خلقتها: "نهضت أركض نحو المرآة أطمئن على شعرتي، وضحكة شماتة وانتقام تطاردني. يا للفاجعة؛ وجدتني ناقصاً. إلهي وأنت جاهي، ألهمني الصبر، لأجتاز محنتي وأواصل الكتابة". ص15.
وفي كثير من قصص جعفر العقيلي حرْص على تسمية الشخصيات، وهو سمة واقعية من خصائص السرد الواقعي، إذ التسمية مظهر من مظاهر تحديد الشخصية وتفريدها وبيان هويتها ومعالم انتمائها، فهو مما يساعد على وضوح عنصر الشخصية والاهتمام ببروزها، وعادة ما يكون مصحوبا بالتركيز على مظهرها ومخبرها أو جوهرها، أي بإبراز بعض معالمها الخارجية كالملامح والملابس والسمات الفارقة، وكذلك بعض ميولها وعاداتها الخفية. فغازي بطل قصة "ربيع في الرماد" جاء اسمه متناسبا مع دوره ومشاركته مع صغيره في الاحتجاجات التي شهدتها عمّان قبل سنوات ضمن موجة "الربيع العربي" وتكشّف ميله إلى التمرّد والتفاعل مع أجواء الاحتجاجات ومدلولاتها الثورية والإصلاحية. صحيح أنه لم يخسر الكثير جرّاء مشاركته باستثناء صحن الحمّص الذي اصطحبه في الأصل لتزويد أسرته بإفطار الجمعة الهانئ، ولم يتعرّض لإصابات مؤذية باستثناء القليل من الاختناق لفوضوية الحركة وكثرة المشاركين والتضييق عليهم في مساحة ضيقة، ولكن هذه المشاركة الثورية تدل على رغبته في التغيير واستعداده للتضحية في سبيل إصلاح الواقع اقتصادياً وسياسياً.
وقصة (انتصار) ترد فيها أسماء معظم الشخصيات: أبو عقاب الذي يحمل كنيته مقدّماً قبل الزواج وقبل امتحان رجولته. وزوجته فضّة، ورضوان السائق القروي من جيرانه، والحاج عيسى.. وغير ذلك من أسماء تشي بتأثيث القصة تأثيثاً واقعياً يتظاهر بالمطابقة بين القصة والواقع الاجتماعي الذي تحيل عليه.
وبعض القصص تتناول وقائع حقيقية أو تاريخية غير متخيلة، ذات طابع محلي بحت، ويكون التخيل واقعيا بمعنى أنه يعزّز الواقعة الخارجية، ويقدم صياغة داعمة لها غير متعارضة معها. فقصة "تذكار" مثلا دفاع عن البيئة من خلال الدفاع عن غابة برقش التي تعرضت للإغارة منذ سنوات، وتقرّر إقامة مشاريع سياحية تؤدّي إلى قطع عدد هائل من أشجارها. والقصة تقدّم شخصيتين: زوج وزوجة، صحفي ومصورة فوتوغرافية، يتعاونان للقيام برحلة إلى الغابة لتثبيتها بالصور قبل تغييرها، ولكنهما يكتشفان أن الطريق إليها قد تم إغلاقه، فيكتفيان بصور أخيرة يلتقطانها عن بعد، ويعبّران من خلال القصة عن حسّهما وضميرهما الوطني الذي يتولّى الدفاع عن الأشجار والغابة الساحرة.
وكذلك تبدو قصة "قشّة تكفي" تعليقا على أخبار قديمة تداولتها وسائل الإعلام الأردنية قبل سنوات على خجل بقرب انضمام الأردن إلى "مجلس التعاون الخليجي"، وهو ما يجد فيه حمدان الشاب الذي خسر ماله في قضية "البورصات الوهمية" بارقة أمل، ولكن يعيده صديقه المتقاعد سالم أبو حلاوة إلى رشده وهو يؤكد له "انضمامنا إلى مجلس التعاون ليس خبرا يا صاحبي، ذكّرتني بالغريق! هذا مقال لمواطن مثلك ومثلي، يبدو أن الطفر قاده إلى تمني ما يستحيل تحققه". ص66.
وقصة "انتصار" تعالج مشكلة العنّة التي تعرّض لها "أبو عقاب" وزاد من شدتها وحدّتها الوسط القروي الذي يعيش فيه، والذي يهتم أيما اهتمام بمسائل الإنجاب، والتدخل في حياة الآخرين والضغط عليهم ضغطا رهيبا لا يفلتون منه. ومع أن عشرات القصص قد عالجت مثل هذه المشكلة الواقعية، فإن العقيلي قد استحضر خبرته القروية، وصاغ حبكة لا تخلو من غرابة وسخرية عندما وضع قصة تنهض فيها حيوانات الريف وطيوره بدور مثير في تصعيد مشكلة "أبو عقاب"، فموضوع رجولته التي لم يستطع أن يثبتها بعد زواجه ومرور زمن مقلق عليه دون حل، يجعل منها بؤرة تفكيره، وعندما يقرر اصطحاب بقرته ليعشّرها من ثور أبي عيسى المشهود له في هذا النشاط الفحولي، يغدو مهموما أكثر وهو يتذكّر عجزه وضعفه.  
لقد نهض أسلوب التداعي والالتفاتات النفسية بدور بليغ في تثبيت المشكلة وبيان حدودها وآثارها الرهيبة، ومرّت لمْحة تفيد بأن الزوجين الشابين قد راجعا الأطبّاء أثناء إقامتهما المؤقتة في المدينة، "وامتلأ بيتهما بالوصفات والحُجب والأدوية دون فائدة"، ص35، وكان يمكن استثمار هذا الجانب وإبراز دور العلم في حل هذه المشكلة المعقّدة، خصوصا وأن الشاب في القصة يعاني من مشكلة نفسية تتمثل في الخوف من الفشل الجنسي، وهو ما تلمّح القصة إلى تجاوزه بعد تدقيقه الطويل في نشاط الحيوانات والطيور الريفية، خصوصا بعد الجولة الأخيرة من جولات ثور أبي عيسى، وحادثة الدهس التي تعرّض لها غريمه "الديك": "قبل أن تنهي فضّة كلامها، كانت دماء حارة تتلاطم في عروقه، فاقتادها مصدومة: تعالي معي، وفيما كانت تحاول فهم ما يجري، اجتاز بها أبو عقاب باب غرفة النوم، متأكداً من انتصاره على نفسه هذه المرّة". ص36.
وفي قصة (وقت مستقطع) يكاد الكاتب يعيد نموذج "المومس الفاضلة" الذي أولع به الأدب الواقعي والوجودي في القرن العشرين، في تسويغ عمل بنات الهوى والليل، والنظرة لهن نظرة مغايرة للنظرة التقليدية، فهن لسن منحرفات وإنما الواقع هو المنحرف، وقد يكون لديهنّ مواقف نبيلة يفتقر إليها كثير من مدّعي الفضيلة. يواجه بطل القصة الذي خرج دون تخطيط على يومه المبرمج، واحدة منهن، يوقف سيارته بدافع الفضول ليتواصل مع المرأة التي تخاطبه بخطابهن: "اسمُ الحلو؟ بادرته بما أوتيت من غنج مصطنع. وقبل أن يهتدي إلى واحد من بنات مخيلته يدّعيه لنفسه تلعثم وهو يقول:
- نضال..نضال عبد الله..وأنت؟
- دلع!
- اسمك الحقيقي؟
- آه..إن شاء الله أنقبر إن كنت أكذب..(ص43).
وتتكشّف امرأة الليل عن شقاء لا حدود له، كأنما تفسّر القصة صنيعها استناداً إليه، ذلك أن نضال عبد الله عاملها "كامرأة فاضلة" فاشتكت من زوجها السجين في قضية مخدرات ومن المسؤوليات التي ألقيت عليها، والأسرة الممتدة التي تعيلها، "قل لي ماذا أعمل؟ كل الأبواب سدّت في وجهي. نفسي أحج وأزور قبر النبي". ص45. وهو خطاب تبريري قبلته القصة وهي "تطهّر" صورتها وتقدّمها في هيئة "المومس الفاضلة" متابعة في ذلك صناعة هذه الشخصية بمواصفات الواقعية الاشتراكية. وهو ما يظهر في قول المرأة في السطور الأخيرة من القصة: "على فكرة. هذه أول مرة يسمعني فيها أحد. قالت تحاذر أن تفضحها النهنهة، وقد فاض وجهها بالحياة". ص46.
ويمكن أن نشير أخيرا إلى الاختيار اللغوي الذي يميل إليه جعفر العقيلي، مما يتمثل في تقديره للغة القصة، من ناحية دقّتها وسلامتها ابتداء، ثم ميله إلى اللغة الفصيحة والسليمة من ناحية صياغته للحوارات وأقوال الشخصيات، مع شيء من الميل إلى تفصيح العامي، واختيار بعض التراكيب الفصيحة التي يستعملها العوام، ففي هذا المشترك بين العامية والفصحى ما يغني عن الألفاظ والتعبيرات المغرقة في العامية، وهو اختيار أو حلّ أسهم نجيب محفوظ في تكريسه وتثبيته، وبذل جهدا كبيرا في تطويره ليكون أحد الحلول المتاحة لمشكلة الحوار في السرد الواقعي، دون أن تخسر القصة أو الرواية فرصتها في تمثيل الواقع ومحاكاته.

  ج. علي طه النوباني: الحفاظ على خصائص النوع وبطولة العاديّ
يقدم علي طه النوباني في مجموعته الثانية"ملح إنجليزي" معالجات واقعية لافتة في معظم قصص المجموعة الثلاثة عشر، ومع أنه شاعر معروف فإنه يضع لغة الشعر جانباً، ويحرص على أن يختار في كتابته القصصية لغة وأسلوباً يميلان إلى البساطة واللغة الفصحى البسيطة مع تأثيرات اللغة اليومية والمحكية بشكل محدود، وفي حدود المشترك بين الفصحى والعامية، ويبعد في الآن نفسه عن إغراءات الأسلوب الشعري؛ فلا تبالغ قصّته في أدائها المجازي والتصويري، وإنما تلتزم بأعراف اللغة السردية التي تُعنى بنقل الأحداث والوقائع، وبحمل البنية الحكائية، أكثر من البروز الذاتي الذي يميّز لغة الشعر عن لغة القصة.
وجاءت معظم قصصه مشتقّة من الواقع، فيها النظرة الجزئية للقصة القصيرة، وفيها الاكتفاء بشخصية أو اثنتين مع التركيز على موقف أو مسلك أو فكرة واحدة، مما يذكرنا بالمفهوم الأساسي للقصة من ناحية نظرتها الجزئية، ومن ناحية ما تسعى له من "وحدة الأثر"، وهو ما يتطلب التركيز لا التشتيت.  كما لا يفوته الاهتمام بالبعد النفسي والداخلي والربط بين الخارج والداخل بمهارة ملحوظة، وبلغة طيّعة  في بساطتها وحيويتها.
وتتنوع النماذج الإنسانية التي يقدمها، من الناس العاديين وليس الأبطال أو المتميزين. بطولة "العادي" هي ما يفتش عنه وينبّه إليه، بمعنى أن الحياة في جريانها اليومي فيها الكثير مما يستحق أن يتأمّله المرء، ومن مهمة القصة اكتشاف مثل هذه المواقف الحيوية الإنسانية وتجسيدها في قسوتها وحنانها.
ويمكن أن نلتفت إلى طريقته الفنية المميزة في افتتاح قصصه، ذلك أنه يبدأها بطريقة مشوّقة تضع القارئ في قلب أحداثها دون تمهيد، فيفتتح قصة موعد كما يأتي:
 "كم أصابني الصداع عندما كنت أحاول التركيز فيما يقوله، فقد كان يتحدّث بسرعة فائقة، ويبتلع نصف الكلام". (ص5). وهي بداية موفّقة تناسب ميل القصة القصيرة إلى الكثافة والتركيز، وتريح الكاتب والقارئ من عناء المقدمات الطويلة، وتسمح بالتعرّف على الشخصيات ضمنياً من خلال مواقفها وطريقة تقديمها.
أما قصة شهامة فارس فتبدأ بوصف الشارع الرئيس في الاسكندرية: "الشارع الرئيسي في الاسكندرية يتكوّن من مسربين عريضين جدّاً، ربما يزيد عرضهما معاً عن ثلاثين متراً، وربما رأيتهما كذلك لأن المرور من خلالهما في الازدحام الشديد يبدو بالغ الصعوبة وخاصة لشخص مثلي يسير على زوج من العكاكيز". (ص17). ولعل هذا الوصف الذي يرد في مفتتح القصة ويكون أول ما يعلق في ذهن القارئ منها يغدو أساسياً لارتباطه بشخصية الراوي واستعماله القسري للعكاكيز مما يجعل اجتياز شارع من هذا النوع أمراً شديد الصعوبة، ويصلح أن يكون امتحاناً لشهامة فارس الصديق الدّعي الذي تقدّم القصة نقدها لشخصيته، ثرثار لا يكاد يكفّ عن الكلام، حتى أنه يبتلعه ابتلاعا لكثرته، ولكنه في مقابل ذلك لا يكتفي بنسيان صديقه صاحب العكّازين أثناء عبور الشارع المزدحم، بل يكاد يعترضه ويعرقله بحذائه اللامع المميز، وهو يسير على غير هدى متظاهراً بمساعدة إحدى الفتيات في عبور الشارع. كشف الزيف والوصول إلى حقيقة النموذج الإنساني بين الظاهر والباطن، بين الكلام والفعل يبدو لنا هاجساً من هواجس قصص علي النوباني، كما تبدّى في هذه القصة وفي قصص مقاربة.
أما قصة: "البيطرة" فمن أبرز قصص هذه المجموعة، بل هي قصة نادرة شكلاً ومضموناً في القصة القصيرة الأردنية والعربية، تجمع بين الكثافة والتأثير والعمق، لا تتعدّى كلماتها مائة كلمة، ولكنها متّسعة الدلالة، ففيها شخصية الطفل الذي كان قدره أن يسير على عكّازين، محروماً مما حظي به مجايلوه، وفيها معاناته النفسية، وإحساسه الفادح بهذا النقص.
تبدأ القصّة بوصف شخصية (المعلّم) الأستاذ موسى وصفاً مكثّفاً، ثم تنتقل ليتضح دور ضمير المتكلم فيها: "كنت الوحيد الذي يمشي على عكازين في صفي، بل في المدرسة كلّها. وأذكر مرة أن الأستاذ عيسى قال للطلاب: غداً لدينا حصة نشاط، سوف نذهب إلى عيادة البيطرة سيراً على الأقدام، فتقافز الطلاب فرَحاً. وشغل ذهني في تلك اللحظة بالتفكير في معنى الكلمة: ب ي ط ر ة، هكذا هجأتها علّي أصل إلى معناها". ص77. ويؤدي اللجوء إلى اللغة وتهجئة الكلمة في الموقف القصصي وفي نص القصة بإثبات الحروف المقطعة لها إلى شيء من التبطئة القصدية للسرد، بهدف التركيز على هذه الكلمة/التجربة، ومدى تأثيرها الوجداني والنفسي، ذلك أن الطفل لن يتمكن من مرافقة زملائه ليصل إلى عيادة البيطرة فيكتفي بالوصول إلى ساحة المدرسة، وهو لا يفكر في الكلمة، بل يفكر فيما منعه من معرفتها أو حال بينه وبين الوصول إليها. "بقيت جالساً في مقعدي إلى أن خرج آخر طالب، ثم خرجت إلى ساحة المدرسة، ووقفت عند الباب، في ذلك اليوم لم أفكّر بمعنى كلمة بيطرة، وانصبّ ذهني على التساؤل عن المسافة بينها وبين المدرسة. سافرت بعد ذلك في الطائرة إلى مدن بعيدة، لكن البيطرة بقيت بالنسبة لي أبعد بكثير من كل تلك المدن!". ص78.
مثل هذه القصة التي تنجح في إيصال مدلولها ورسالتها الدرامية تدلنا على واحدة من الطرق البديعة لكتابة القصّة القصيرة، ذلك أن الزهد اللغوي الذي تبدّى في بساطة اللغة بمفرداتها وتراكيبها قد تقابل مع قوة الموقف ومع طاقته التأثرية البليغة، إلى جانب المفارقة في نسبية القرب والبعد وفلسفة المسافة، وعلاقة ذلك كله باللغة، فعجز الطفل/الراوي عن إدراك معنى البيطرة بسبب عدم مقدرته على الوصول إلى العيادة، تحوّل إلى إبداع قصة فريدة لم ينجزها أي من الفتيان الذين وصلوا إليها بشكل يسير.
وفي قصة "ملح إنجليزي" تظهر المعاناة المركّبة للفتاة "كفاح"، التي تعاني من البدانة معاناة نفسية شديدة، كما تعاني من زوجة أبيها، وطلاق أمّها. تبدأ القصة بمحاولة زميلتها مساعدتها من خلال تقديم وصفة شعبية للتنحيف تعتمد على "غلي ورق التين"، وتعبّر القصة عن اهتمام الفتاة بحل مشاكلها، فهي فتاة "سويّة" ترغب في التغيير وحل المشكلات: "رائع هكذا أتخلّص من واحدة من أصعب مشاكل حياتي، تبقى مشكلة زوجة أبي وأبي نفسه", ص9.
 تتطور القصّة عندما تكشف عن اتهام زوجة الأب الفتاة وأختها بمحاولة التآمر مع أمهما المطلّقة بدسّ السحر في طعامها أو ملابسها، والأب يسايرها في اتهام البنتين دون أن يوازن الأمور بنظرة عادلة، وتنجح القصة في دمج المعاناتين، مشكلة البدانة ومشكلة زوجة الأب معاً، عندما تحاول كفاح تطبيق الوصفة وغلي أوراق التين، إذ تسقط  زوجة الأب أوهامها على المزيج المغلي، وتدّعي أنه ضرب من السحر، ولا تقتنع بأنه وصفة تنحيف، فتتعرض الفتاة مع أختها للعقاب الشديد، وذلك بإجبارهما على الاستحمام بالملح الإنجليزي، الذي تستعمله زوجة الأب لإبطال السحر وفق أوهامها. لا تقدّم القصة حلّاً لمشكلة كفاح، وإنما تكتفي بتقديم هذا العرض لمعاناتها المركّبة، وربما تلمّح من بين السطور أن مشكلة بدانة الفتاة ربما كانت نتيجة سوء المعاملة والوضع النفسي الصعب لها، إلى جانب الجهل الذي يتّصف به الكبار في الأسرة، من ناحية الاعتقاد بالسحر، ومدى قدرة البنيتن على إحداثه. وكذلك تنتقد ضعف شخصية الأب، وعجزه عن القيام بدوره العادل في تحديد العلاقة بين زوجته وبنتيه اللتين طلّق أمّهما.
أما قصة "دائرة ونقطة" فقصة بارعة، تقدّم طرفاً من أطراف عالم الجنون والمصحّات، ذلك العالم الغامض الذي يحاذي عالم الأدب ويقاربه. والجنون يتضمن قدراً من التخليط، ويسمح بالانتقال والتحوّل غير المنطقي بين الأشياء، وهذا ملمح آخر يربط الأدب بالجنون. الراوي ربما هو الأقل جنوناً فقد حمله الفضول على اكتشاف ذلك العالم كما نعرف من الفقرة السردية الثانية، وبمساعدة صديقه تمكّن من الدخول كواحد من النزلاء. ويعني ذلك في الفن إلغاء المسافة والاقتراب الحميم من ذلك العالم، مما ينجي القصة من الوصف البعيد، ويساعدها على تقديم شخصيات ممثلة للظاهرة.
تلاعبت القصة بترتيب المشاهد، مستفيدة من حرّية الترتيب والحركة في عالم الجنون، فقدمت أولا مشهداً لا يخلو من غموض لأنه جاء دون تمهيد أو إيضاح لمكانه أو زمانه أو شخوصه، يعتمد فيه المتحدث أو المحاضر على الشرح والإيضاح من خلال تكوين الأشكال والرسوم وما ينشأ عن ذلك من دلالات وإيحاءات. تنسجم هذه الفكرة الفنية-الجمالية مع عالم الجنون بما فيه من تمرد وخروج على حدود الواقع، كما هو حال الفن في تمرّده وتصادمه أيضا مع الواقع. ونكتشف بعيد ذلك أن المحاضر أو الأستاذ هو نزيل من نزلاء العنبر.
الفكرة الأخرى التي تعاينها القصة هي فكرة "البطولة"، فالراوي يحمل فكرة سلبية ناقدة للبطولة والأبطال، سواء أكانوا أبطالا شعبيين رمزيين كالزير سالم، أو كانوا أبطالاً واقعيين ممن نرى ادّعاءاتهم في حياتنا اليومية، "هؤلاء كلهم مجرد نماذج من (الدون كيشوت) يجوبون شوارع هذه المدينة ويهزّون سيوفهم في كل الاتجاهات ما عدا تجاه أنفسهم". ص24.
ويتردد نقد الأبطال والبطولة في كلام المحاضر الذي يكاد يلتقي مع كلام الراوي ويصبّ في مصبّه، فهو يعيد النظر في مفهوم البطولة ويقدّم صورة ساخرة لأحد "الأبطال" المزيّفين الذين عرفهم، وإذا ربطنا هذه الفكرة المتكرّرة ببعض القصص الأخرى فسنكتشف أن "ثيمة" كشف الأبطال المزيفين، وإعادة النظر في مفهوم البطولة وأوهامها من بين الهواجس الأساسية التي ينطلق منها القاص في طائفة من قصصه. ففي قصة (موعد) قدّم نموذجا زائفا من خلال كشف أكاذيب صديقه الثرثار، وكذلك الحال في قصة (شهامة فارس). وفي قصة (نظرة) كشف زيف الصديق المثقّف الباحث الذي سرق نصف مكتبته ثم أضاعها ولم يرجعها. وكذلك يتكرّر النموذج في قصة (سيجارة على الرصيف)عندما يتم تدليل بعض الطلبة في صورة مصغّرة من صور صناعة البطل، فيغدو مركز الاهتمام بينما يهمل الآخرون.
وعلى وجه الإجمال لا يكاد يغيب البعد النقدي عن قصص علي النوباني، ويتجلّى في نقد الأخلاق والسلوكات والمعاملات، ولكنه يختار ما تسمح به القصة القصيرة من تركيز وعزل للمسلك موضع النقد، ويشعر القارئ بأن قصته غالباً ما تذهب برشاقة ومهارة إلى نهايتها دون أن تثقلها الزوائد أو الشروحات. يتقن فن الحذف والتهذيب والاختصار، وهي مهارة أساسية وحاسة سابعة يحتاجها القاص، لأن السرد بطبيعته يستثير أموراً كثيرة قد تعرّض الكاتب إلى الاستطراد والإطالة والتشتت، ومن المهم أن يكون كل شيء بقدر، بطريقة لمّاحة ذكية تتلاءم مع متطلبات الفن الذي لا يعتمد على الإخبار قدر اعتماده على التلميح والإيحاء.

د. شفيق طه النوباني: ألوان أخرى من الواقعية
يمكن أن نسلك قصص شفيق طه النوباني (مقاطع من سيرة أبو زيد) في الاتجاه الواقعي، فهو الطابع العام المميز لها، دون أن يمنع هذا الانتماء ظهور بعض السمات التعبيرية وخصوصا في نهايات بعض القصص، وكذلك تقديم قصة تستوحي شكل "المقامة" وهو شكل تراثي يعد إحياؤه ظاهرة تجريبية تستحق الانتباه، ولكنه في جوهره "التاريخي" أقرب نوع سردي تراثي اجتهد في تصوير الواقع الاجتماعي واختلالات المدينة العربية القديمة التي ظهر الشطّار في ضوئها.
   تقوم طائفة من القصص على مبدأ الاختيار والمحاكاة، بمعنى الاختيار من تفاصيل الواقع، ومحاكاة أحوال واقعية بعينها، ولا يشترط أن تكون الأحداث والوقائع قد حدثت بالفعل، وإنما المعول عليه في الواقعية إمكانية أن تحدث، وأن تكون مقبولة بشروط الواقع وأحكامه.
ومن هذه القصص قصة (لن أحمل السلاح): وهي قصة مستوحاة من الحروب الداخلية التي أفضت إليها الأحوال العربية في السنوات الأخيرة، ويمكن ربطها ببعض مظاهر ما سمي بـ "الربيع العربي"، لكنه تكشّف عن جحيم آخر ما زالت عدة أقطار عربية تعاني من آثاره المدمّرة، ولا يحدد الكاتب مكانا أو بلدا لقصّته، كأنه يريد تعميمها لتنطبق على بلدان عربية كثيرة شهدت ما يقرب من الحروب الأهلية الداخلية.
وتقوم حبكتها الأساسية على محاولة رب الأسرة (عليّ) أن يفرّ بعائلته من الحي الذي يسكنه إلى قريته البعيدة لعله يجد ملاذا أكثر أمنا، خاصة بعد أن ازداد الخطر عليه عندما اختار موقف الحياد، رافضا الانحياز إلى طرف من الأطراف، ورافضا فكرة أن يحمل السلاح ضد أحد من أبناء وطنه: "لن أحمل السلاح، سأدعو دائما إلى وضعه، لن أحارب أبناء وطني". ص7. وهو موقف سلمي حسن، ولكنه بدا غير مسبب أو مسوّغ في سياق القصة، ذلك أن السرد انشغل بوصف ويلات الحروب دون وصف أسبابها وعللها. وأطال الكاتب في وصف تسلل الأسرة ومحاولاتها للخروج أو الفرار وسط الخوف والتوجس، للانتقال إلى مكان آمن. وثمة حوار مستعاد مع صديقه "فتحي" الذي ينتمي إلى إحدى جماعات الحرب، ينبّهه فيه إلى الخطر المتزايد عليه بسبب موقفه الحيادي، ويبدو أن هذا التنبيه هو الذي دفعه أخيرا للرحيل، وكانل فتحي دور في تأمين وسيلة النقل وترتيب أمر وصولها. وهناك حوار طويل مع سائق السيارة الذي يبدو ضليعا بأحوال البلاد والعباد في مرحلة الحرب، وفي طريق الهرب والفرار تضاعف القصة بعض المواقف المؤلمة من مثل موقف العثور على جثة لفتاة يتبين لعليّ أنها حبيبته القديمة من عشرين سنة، وأنها ضحية من الضحايا الذين لا ذنب لهم في مجريات الأمور، ورغم أنه يفكر في أن يفعل شيئا للجثة كأن يكرمها بالدفن إلا أنه يكتفي بالبكاء لاصامت عليها، ويواصل طريقه وهو يخاطب ذكرى نسرين: "ها أنذا أتركك يا نسرين ميتة كما تركتك قبل عشرين عاما تتشحين بجمال الأرض وبورق الدحنون". ص15.
ورغم الطابع الواقعي للقصة من ناحية تقديم صورة آثار الحرب وبعض نتائجها المؤلمة، فإنها لا تتأمل أبعد من ذلك، فلا تربط العلة بالمعلول، ولا تقدم تفسيراً أو تأويلاً لأسباب الحرب ومآلاتها، فويلات الحروب وآثارها متشابهة، لكن المعوّل عليه أكثر من البكاء على ضحاياها محاولة تقديم رؤية لأسبابها ولكيفية تجنّبها وخصوصاً في عمل فني لا يراد منه أن يكتفي بما يكتفي به التقرير الإخباري الذي يتوقّف غالبا عند وصف الوقائع دون تحليلها أو تعليلها.
لقد اجتهدت القصة في اختيار موقف "الحياد" الذي يعني التعارض مع الجميع في أحوال مثل الأحوال التي وصفتها، ولكنها لم تمنح الشخصية فرصة إيضاح هذا الموقف، وسبب اختياره. كما أن هناك شخصيات حيوية أكثر انفعالا بالحرب، مثل فتحي الذي اختار جماعته المقاتلة، ولكن لم يظهر منه ومن جماعته أي موقف سياسي أو رأي يساعد على فهم مشكلة الحرب. وهناك الضحية نسرين التي تباكى عليها الرجل الباحث عن مكان آمن، فماذا لو تأملت القصة موقفها وسمحت لها بشيء من الكلام قبل أن تودي بها أحداث الحرب؟!
وتصور قصة الفجر الأخير الليلة الأخيرة في حياة سجين امتد سجنه عشر سنوات. تقدّمه في زنزانته الانفرادية، ومشاعره النفسية، وبعض محاولاته للإطلالة من النافذة الضيقة لرؤية أشعة الشمس. تركّز القصة على مشاعره وعلى معاناته، لكنها لا تفسّر أو تعلل سبب سجنه: هل هو مظلوم؟هل هو مجرم يستحق السجن؟ هل هو سجين سياسي؟ لا نعرف شيئا سوى معاناته الموجزة في الليلة الأخيرة، ثم خروجه يعرج من ألم أو وجع في رجله.
وغياب الأسباب أو السكوت عن التعليل أمر متكرّر في قصص شفيق النوباني، فهو يستغرق في الوصف والإخبار، ويقدم صورة وافية من هذه الناحية، ولكن السكوت عن العلل يؤدي إلى شيء من تسطيح القصة الواقعية التي لا تكتفي عادة بالأوصاف والصور والمظاهر وحدها.
وقد تولّى الراوي العليم تقديم السرد في كثير من القصص، ومنها قصة الفجر الأخير، التي قد يحتاج سردها إلى الراوي المتكلّم بطبيعته التي تسمح بتقديم التأملات والتجربة الفردية بشكل أفضل،  فلو قدّمت هذه القصة بمنظور الراوي المتكلم لأمكن للسجين المنفرد في زنزانته أن يعبّر تعبيرا أبلغ عن معاناته، وقد حاول القاص معالجة ذلك من خلال التداعيات التي يعبر فيها السجين عن نفسه. أما الحوارات فقليلة نظرا للعلاقة المحدودة بين السجين وحراسه أو سجانيه. هناك استذكارات قديمة تمر في ذاكرته تلمع هنا وهناك منها صورة الشمعة التي أشعلتها أمه في أحد أعياد ميلاده، وكأن ضوءها ما زال يذكره بحاجته إلى النور. قصة واقعية بأسلوبها ولغتها وتفاصيلها، لكن ينقصها أو يتممها تفسير سبب سجنه، أما المعاناة وحدها فليست بكافية لتسويغ ولادة القصة.
أما في قصة "في حضرة بروميثيوس" فنجد نفسَا آخر ينوّع على هذه التجربة، يتمثل في توظيف اللوحة الفنّية والتشكيل البصري لينال حظّاً من اهتمام القصة القصيرة. واللوحة التي تُعنى بها القصّة هي لوحة الفنان الإسباني خوسيه ريبيرا من فناني القرن السابع عشر الميلادي (ت 1652م) عن (عقاب بروميثيوس) بعد أن سرق النار وصارع الآلهة وفق الأساطير اليونانية القديمة. ولا شك أن القصة القصيرة تحتمل الانفتاح على الفنون والأنواع الأخرى الأدبية وغير الأدبية شريطة أن تندمج في بناء القصة وأن يكون توظيفها مسوّغاً من الناحية الفنية.
يحتل الاهتمام باللوحة والتعليق عليها جزءا طيبا من القصة، بل يكاد يشكل جزءها الرئيسي. أما المتحاوران فهما صاحب البيت أو الشقة من جهة، ومندوب المبيعات من جهة ثانية، الأول مصوّر سابق، بقدم بلاستيكية بعدما فقد قدمه الأصلية بانفجار لغم أثناء عمله، والثاني بعين زجاجية لا يحسن رؤية اللوحة. أما رسم شخصية المصوّر فقد جاء ناجحاً دالاً؛ لإمكانية ربط القصة بآثار الحروب وألغامها،  وكان يمكن تحريك هذه العلّة من مكمنها ليكون لها دور أوسع في تكوين الشخصية وفي انفعالاتها غير الطبيعية. لقد جاء مندوب المبيعات مصادفة دون معرفة مسبقة بصاحب البيت واللوحة، ونشأ بينهما حوار قاده ذو القدم البلاستيكية في عمومه، ولكنه بدا حواراً منقطعاً، وأقرب إلى المونولوج أو التداعي من الحوار الثنائي، ذلك أن العلاقة بين الاثنين علاقة مصادفة قدرية وفق القصة. ويمكن قبول هذه المصادفة على مبدأ "المقايضة السردية" الذي قد يتمثل في طلب المتكلم المليء بالحكايات إلى مستمع لا يعنيه تماماً أن يعي كل ما يقول، بمعنى أن يتحوّل المستمع إلى حجّة أو ذريعة للكشف عن الحكاية أو الحكايات، ويغلب أن ينال مكافأة على استماعه، وثمّ حكاية شهيرة على هذا الضرب من المقايضة في حكاية السندباد البحري من قصص ألف ليلة وليلة. وقد نال مندوب المبيعات مكافأته جرّاء استماعه وصبره، مما تمثل في حصوله على اللوحة مدار الحديث، بعد أن اكتشف المصوّر أنه لا يحبّها وأنه يحتاج إلى غيرها.
 وقد نذهب في تأويل القصة نحو الوحدة التي عانى منها المصوّر بعدما فقد قدمه في حادثة قديمة، وأن هذه الإصابة قد سببت جراحا نفسية حادة، انعكست على تعامله مع المندوب المسكين، فنصّبه متلقيا مجبرا على الخوض فيما لا يعنيه، ومن ذلك الاستماع إلى التحليل الطويل للوحة بروميثيوس. أما التحليل فبدا شرحا طويلا وضربا من استعراض المعلومات حول اللوحة، ولم يندمج وفق رأينا اندماجاً تامّاً بإيقاع القصة، وربما كان التلميح هنا أكثر توفيقاً من العرض الطويل، فخلاصته أن المصور يعترض على تعاطف الرسام ريبيرا مع (بروميثيوس) في لوحته، وكأنه يريد أن يقوّض رمزيته وطاقته الدلالية.
تنتهي القصة بتعثر المندوب على درج العمارة وتكسر اللوحة التي كافأه بها المصوّر، فطلب منه أن ينزعها عن الجدار وأن يأخذها معه ليخلّصه منها. إنها مقايضة خاسرة إذن، وربما لو استبطنت القصة مبدأ المقايضة بشكل فني أعمق لأبقت على اللوحة، فليس من الملائم أن يخسر متلقّي السرد مكافأته عوض جهده المبذول.
أما القصة التي تحمل المجموعة اسمها "مقاطع من سيرة (أبو زيد)" فقصة جيدة، وهي تمثل أسلوب الكاتب تمثيلاً حسناً. قد يعيبها أن الزمان فيها طويل نسبياً، قدّمته بطريقة متصاعدة مرتّبة، مما لا ينسجم كثيرا مع قصر الزمن في القصة، وفاتها الإفادة من طرق الاحتيال على طول الزمن وامتداده، عبر التداعي والتذكّر مثلاً، ولكنا إذا تجاوزنا الزمان (الروائي) الذي اعترضها فإننا واجدون فيها مقدرة قصصية غير خفية فيها كثير من ملامح الواقعية، من ناحية تسمية الشخصيات ودلالة الكنى (أبو زيد، حمزة العرب)، وهما كنيتان من كنى أبطال السير الشعبية، تستعملان في القصة استعمالاً نقدياً ينسجم مع مؤدّاها الدلالي. إذ تقوم فكرتها الجوهرية فيما نحسب على نقد صناعة البطولة الزائفة، والتنبيه إلى خديعة الخطاب اللغوي في مثل هذا الحال، والإشارة من خلال ذلك إلى ما يذكّر بنموذج مذيع صوت العرب الراحل (أحمد سعيد) الذي تفوّقت انتصاراته اللغويية على الأداء العسكري، ولكن انكشاف الهزيمة عام 1967م ولّد خيبة شديدة عند من شاركوا في المعركة من خلال الاستماع إلى صوته وخطابه الحماسي. أبو زيد صار مذيعاً مماثلاً وخسر جولته في هزيمة مماثلة، فاضطر للاختفاء، ولكن الظاهرة لم تنته، فما زالت الحاجة إليها قائمة في ظل غلبة اللفظي على العملي، والحماسة على التخطيط والاستعداد، فقد ولِد في مكانه مذيع آخر اسمه (حمزة العرب) لم يلبث أن أكمل دوره ووظيفته. وقد يتراءى لنا أن القصة تشير إلى ظاهرة الاستعمال اللفظي للغة عند العرب المعاصرين، وأن الأفعال فيها لا تتبع الكلمات، وبشكل من الأشكال نستدعي مقولة المرحوم عبد الله القصيمي في نقده لهذه الظاهرة مما حمله كتابه المعروف "العرب ظاهرة صوتية".












ثانياً: اتجاه القصة التجريبية

  يمكن أن نستعمل مصطلح "التجريب" و"القصة التجريبية" وصفا لأنماط  شتّى من الممارسات الكتابية التي تتطلّع إلى استعمال عناصر ومكوّنات جديدة، بهدف إحداث تغييرات في المفاهيم والخصائص "المستقرة" واستفزازها والتشكيك في جدواها أو صوابها. فالتجريب إذن ليس "مدرسة" محدّدة المعالم واضحة المسالك، وإنما هو أقرب إلى وعي يصحّ أن يكون وعيا ممنهجاً لا يقبل بالمستقرّ، ولا بالشروط والحدود، وإنما يسعى إلى تقويضها، دون أن يخالجه الخوف من تبدّد الأنواع أو تغيّرها، بل ربما لا يقيم التجريبيون وزناً كبيراً لمسألة الأنواع الأدبية، فهي مجرد أدلّة مبسطة، تفتح الطريق نحو الإبداع، ولا يجوز أن تغلقه عند معالم أو إشارات محدّدة.
  ولعل المصطلح نفسه والمناخ الذي ولد فيه عربياً وعالمياً قد جاء من العلوم والحقول التطبيقية غير الأدبية، ففي الكيمياء والفيزياء أو صناعة الدواء أو الزراعة أو غيرها.. لا يتوقف العلماء والباحثون عن القيام بالتجارب، وخلط العناصر ومزجها لعلّ ذلك يفضي إلى اكتشافات جديدة تضيف إلى العلوم مكتسبات جديدة قد تفوق أحياناً ما توصّل إليه السابقون. وقد يحاجج بعضنا في اختلاف العلم عن الفن، وأن ما يصحّ في العلم ليس بالضرورة أن يصحّ في الأدب، ونحن لا نعارض هؤلاء ونتفهّم تخوّفهم على الأدب والفن، ولكننا نشير إلى طبيعة المناخ الأدبي العالمي الذي أثّر فيه العلم الحديث تأثيراً فاعلاً، حتى إنه سبق الأدب وأنواعه في الجرأة والتقدّم وسرعة التبدّل، وإذا كان الخيال الأدبي قديماً كان سابقاً للعلم، فإننا اليوم مضطرون للمراجعة والتأنّي في مثل هذه المقارنات الصعبة.
ونفترض أن التجريب يقتضي عدة أمور متداخلة:
- المعرفة بالعناصر والقوانين السابقة، من دون الالتزام بها، بل إبقاء الباب مفتوحاً لاستكشاف قوانين جديدة في ضوئها، أو بالتمرد عليها.
- التقويض من مظاهر التجريب، ولكن الوقوف عنده ليس كافياً للنجاح، بل لا بد من تقديم نماذج جديدة تقوم على أنقاض القديم أو المكرّس والمحافظ.
- يستعمل الأديب عناصر جديدة، أدبية وغير أدبية، استعمالاً جديداً قد يفضي إلى تعديل أو تغيير بعض الخصائص والمظاهر الأدبية.
- التجريب مناهض لمبدأ المحافظة، ولذلك فالمحافظون قلّما يتّجهون إلى التجريب، فحتى ما يُتوصل إليه من قوانين أو عناصر جديدة تتعرّض هي الأخرى للتغيير ولا تبقى ثابتة.
- التجريب أقرب إلى وعي، ولذلك فإنه قد يتحوّل إلى لعب شكلي أو إلى ضرب من العبث، إن لم يكن مسنوداً برؤية "تجريبية" وبوعي خاص.


أ‌. ربيع محمود ربيع: تجريبية الاحتجاج والمحاكاة الساخرة

ويمكن أن نرى في مجموعة ربيع محمود ربيع "الذاكرة لا تعشق" ميولاً تجريبية متنوعة، فهو ابتداء يكتب قصة قصيرة تتوافر على حدّ ملائم من "المتعة السردية" و"الخفّة الإيجابية"، ويتأتى له ذلك من خلال جملة عناصر توفرها قصصه، منها لمسات السخرية الذكية التي تذكّر بتراث طويل من جماليات السرد الساخر. ومنها ميله إلى تجزئة القصة إلى مواقف ولوحات جزئية تمنع تضخم المادة السردية، وتسمح بتعديل منظورات الراوي، وتهيئ الفرصة لتعدد تقنيات السرد وطرق المعاينة. فتنمو القصة وتتوسع بطريقة مدروسة، مغايرة للطرق التقليدية في نمو القصة القصيرة. وهذه الطريقة المتحررة من شروط رسم الشخصية ومن تحديد بيئة القصة، والتعامل المغاير مع الزمان والمكان وكسر التسلسل المنطقي في تطور القصة كلها ملاحظ تجريبية لا تخفى.
كذلك تتغذى قصصه من مصادر متنوعة تشير إلى ثقافة القاص من جهة، وإلى الحاجة إلى التلقي المثقّف، عبر إدراك مرامي إشاراته المرجعية، وعبر التفاعل مع أنواع ومكونات أدبية وغير أدبية تتجمع خيوطها لتكوين قصة جديدة بذل الكاتب جهداً ملحوظاً في تركيبها والمواءمة بين عناصرها، وهذا يدفعنا للقول بأن ثمة إيقاعاً قصصياً في كتاباته يتشكل من ترتيب علاقات المكونات ودلالاتها والطرق التعبيرية التي يتخذها سبيلا لتجميع النص في كل موحّد، رغم تنوع منابعه ومكوناته. ومعنى هذه الثقافة السردية أن القصة القصيرة لم تعد مجرد "حكاية" أو "مادة مروية" وإنما صارت تتسع لألوان من المعارف والإشارات التي تحضر عبر التناص بأشكاله المختلفة، وربما كان التناص الاعتراضي أبرزها، بمعنى أن القاص لا يقيم وزناً للمواد التي يتفاعل معها، فيعرّضها للسخرية وقد ينتقص منها، أو ينتقدها دون أن يحيطها بالإجلال، فمثل هذه الإحاطة والرعاية تعدّ في عُرْف التجريبيين سلوكاً محافظاً ينمّ عن تبعية وأبوية جائرة.
يدرك القارئ بعض منطلقات الكاتب و"مسلّماته" ومنها: الانطلاق من قوة القصة القصيرة بوصفها سبيلاً للنقد والاحتجاج والمعارضة، ونسلك في هذا المنطلق مجموعة القصص "الناقدة" و"الساخرة" الكثيرة في مجموعته، وينشأ عن هذا المنطلق ما يعمد إليه الكاتب من اجتهادات جمالية وتقنية تتمثل في عدم الركون إلى السائد، ومحاولة معارضته، وتقديم إضافات تشعرك ببوادر استقلال الكاتب، وبحثه عن صوته الخاص وهويته السردية الذاتية.
ولو تأملنا القصص التي تعالقت مع الموروث على سبيل المثال، من مثل: جريمة شهريار، وليلى والذئب وغيرهما، لالتفتنا إلى تحرّره النسبي من القصة الأصلية المعادة، وجهده في تقديم قصة جديدة أو رواية أخرى يسعى إلى تقديمها، فهذا الضرب من "توظيف التراث" هو في جوهره ضرب من ضروب "الاحتجاج" و"المحاكاة الساخرة"، وهو توظيف لا يقيم وزنا للصيغة الأصلية للمادة التراثية، وإنما جلّ اهتمامه الانقضاضُ عليها، وتغييرُها، وهو بذلك مظهر تجريبي يستعمل فيه التراث استعمالا ظاهريا بهدف تغييره ونقده ونقضه، وليس بهدف تقديره أو تقديسه. فالتراث هنا مادة تستعمل للتجريب وليس للمحاكاة أو التقليد أو الإعادة.
تتجاوب قصص ربيع محمود ربيع مع الآفاق المتقدّمة التي وصلت إليها القصة العربية المعاصرة، فرغم انصراف النقد عن القصة إلى الرواية والشعر، فقد مكّن ذلك الانصراف عدداً من القصاصين من تطوير أدواتهم وأساليبهم بعيداً عن سلطة النقد العربي وأساطيره المعاصرة الكثيرة، وبلغوا مدى تعبيرياً متقدّماً وجريئاً.
في قصة (جريمة شهريار) يعمد الكاتب إلى تقديم القصة على شكل لوحة مكوّنة من أجزاء مجمّعة، كأنه يفيد من تقنية "الكولاج" أو تقنية "التجميع" في إنتاج نوع من أنواع الرسم التشكيلي المعاصر، فليس ثمة سرد "متّصل" أو "موحّد" على شاكلة القصة التقليدية، وإنما هناك لوحات متجاورة مكاناً دون أن يربط بينها النموّ والتسلسل الاعتيادي أو التقليدي. وتتضح هذه الأجزاء أو اللوحات من خلال عناوين فرعية تقسّم النص إلى أجزاء، كما تساعد في الآن نفسه على إحداث الأثر المطلوب. وإذا كانت "وحدة الأثر" مثلا من السمات المكرّسة في تلقّي القصة القصيرة فإن هذا الأثر يتجزأ هنا ولا يظهر إلا من خلال تجميع اللوحات. كأننا هنا أمام معارضة لهذا العنصر ليغدو "تشتت الأثر" هو العنصر البديل عن "وحدة الأثر". قسّم الكاتب نصه إلى عناوين: تقرير شفوي، متفرّقات صحفية، وفي التحقيق، تاء مربوطة، (الحكاية) الأولى، (الحكاية) الثانية، خلف الكواليس، بداية. ولا شكّ أن ورود وحدة "بداية" في آخر القصّة مظهر تجريبي جليّ، إذ يظهر التعارض بين دلالة الكلمة وموقع ورودها دالّاً على ما تعمد إليه القصّة التجريبية من تغيير وتبديل في مواقع العناصر أو وظائفها.
لقد وظّف الكاتب جانباً من سرديات ألف ليلة وليلة، ولكنه وضعه في سياقنا المعاصر، أي افترضه معاصراً، مما سمح بإدخال تقنيات الصحافة والتلفاز ووسائل الإخبار الحديثة إلى القصة القديمة، وفنّياً هيأ له هذا الاستعمال توظيف أساليبها السردية؛ فالفقرة الأولى المعنونة بتقرير شفوي، مكتوبة في ضوء محاكاة أساليب الخبر التلفزيوني، والثانية (متفرّقات صحفية) اعتمدت على مهارات التلخيص السردي دون التورط في سرد التفاصيل وتكثيرها. فلفظة "متفرّقات" تسمح بالانتقال والسرعة والتلخيص. كما تسمح بالمحاكاة الساخرة، من خلال استبطان أصوات النساء في ثورتهن وتمرّدهن. يضاف إلى هذا توظيف أسلوب "التحقيق" فما دمنا أمام جريمة قتل فلا بأس من مهارات المحقّقين وطرق تقديم الإفادات.
ثم هناك الحضور الكثيف للراوي وتدخّله الصريح في توجيه السرد وتقديم رؤيته علناً، كما في تلخيصه حكايتين تمثلان تعليلاً لارتكاب الجريمة. مع الخروج في هذا التعليل عن الحدود التي بلغتها الحكاية التراثية.
وهذا الراوي يتداخل أحيانا مع الكاتب، فليس ثمّ مسافات، وظهور الكاتب ومخاطبته القارئ مسألة ربما تقع فيما يسميه المعاصرون بـ "الميتا سرد"، وهو ضرب يتيح علاقة مباشرة بين الراوي والمرويّ له، كما يتيح للقصة أن تتغذّى على مكوّناتها الذاتية، نقداً ومراجعة. ففي فقرة (خلف الكواليس) يظهر هذا الصوت: "خلافا لجمهور المسرح لا يصفّق جمهور الورقة بعد الفراغ من سوادها، لذلك لست ملزما بتقديم نهايات سعيدة ترضي ذوقكم وتجعلكم تنبسطون. وهكذا هكذا النهاية عندي دائماً غير سعيدة، وأرجو ألا تحمّلوني فوق طاقتي..فكيف تتوقّعون مني ذلك؟ وأنا إنسان نكد وجهي لا يضحك للرغيف السخن، وفي نفس الوقت لا أستطيع قتل روح القصة؛ فشهريار قام بجريمة قتل..مهما كانت الدوافع والأسباب، فلا بد من إعدامه..". ص14.
إن هذه المهارة في استعمال "الميتا سرد" بما يتيحه من ظهور الكاتب/الراوي ليلعب لعبته بشكل مكشوف ومباشر مع القارئ يؤسس لعلاقة أخرى مغايرة لمبدأ التمثيل السردي التام، وتغييب الكاتب تغييباً نهائياً في السرد التقليدي، وكان ظهور الكاتب يعني فشل قصته لفساد عملية التمثيل التي يقوم عليها السرد الواقعي. أما في القصة التجريبية فإن هذا الظهور قصدي ومدروس، ويظهر ضمن نظام مختلف من الإجراءات الاحترازية لنجاح السرد رغم هذا التدخل والتوجيه. "ولكي لا تزعلوا مني وتقاطعوني، سأسعى لإرضائكم وتطييب خاطركم، سأحاول إنقاذ حياته من غير نصر. وقد وضعت خطوات احترازية ربما ستغفر للنص تعاطفه وتدخله لصالح البطل". ص15. ثم يعدد هذه الخطوات في نقاط متسلسلة هي أيضا مظهر جديد، تتسع له القصة، مما ليس مألوفاً في القصص المحافظة أو التقليدية.
إن الثراء التقني مظهر واضح في قصص ربيع ربيع، يصاحبه ويتساوق معه اجتهاده في تقديم منظور جديد للأشياء والوقائع والحكايات. يسانده في ذلك روح السخرية الأخاذة التي تتيح له ضروباً من "المبالغة" الكاريكاتورية، وتتيح له ألواناً من "المحاكاة الساخرة" بتجلياتها اللغوية والأسلوبية المتنوعة، إلى جانب المفارقة والتضاد وغير ذلك من توابع السخرية. أما ما يجعلها سخرية نقدية فلأنها لا تهدف إلى الإضحاك والتهكم الخالص، وإنما غالباً ما تكون وظيفتها إظهارَ التناقضات والمفارقات الثاوية في تفاصيلَ وموروثاتٍ تتردّد دون تساؤل أو نقد.

ب‌.                     حسام الرشيد: تجريبية التراث والحكاية الشعبية
أما حسام الرشيد فروائي وقاص وكاتب معروف، له إصدارات كثيرة بدأت برواية عنوانها "الملائكة لا تمشي على الأرض". وفي القصة القصيرة له ثلاثة إصدارات هي: رأس كليب/2007، وليمة الجاحظ/2010، ذبابة على أنف هولاكو/2015.
ويعمد الرشيد -على طريقة زكريا تامر وجمال أبو حمدان وغيرهما من الكتاب الذين اجتهدوا في الإفادة من الموروث بصور متنوعة- لاصطياد قصصه أو كثير منها من تلك المادة التراثية الغزيرة. فيستحضر شخصيات ومكوّنات وحكايات تراثية، يعالجها بشيء من التعديل والتطوير ليقدّمها في إهاب قصة معاصرة، مفترضاً أن القارئ العربي سيدرك مرامي قصصه في ضوء معرفته بذلك الموروث المشترك بين الكاتب والقارئ. تبدو قراءات الكاتب وثقافته التراثية السردية والتاريخية أكثر العناصر المؤثرة في كتابته القصصية، وآية ذلك أن معظم قصصه مكتوبة في ضوء تلك الثقافة، متأثرة بها في بناء القصة وفي لغتها وفي مختلف مكوناتها. ويمكن أن نضيف إلى ذلك قراءات معاصرة تتصل بهذا اللون أو الاتجاه السردي المعاصر الذي يتقاطع مع التراث ويشدّد على الإفادة منه.
وفي قصص مجموعته "ذبابة على أنف هولاكو" حاول الكاتب أن يجدّد في التسميات، فجعل المحتويات أو فصول القصص تحت اسم "اقترافات" امتدّت من الاقتراف الأول إلى الاقتراف الثالث عشر. ولكل اقتراف عنوانان، فعلى سبيل المثال: الاقتراف الأول: الحوّاس (قلادة السرّ)..وهكذا بقيتها. وإلى جانب ذلك كتب المؤلف تصديراً موقّعاً بالحروف الأولى من اسمه يقرّ فيه باقترافه هذه القصص، باختياره، وأن محتواها ينتمي إلى الخيال وليس إلى الواقع. وهو تصدير يؤكّد تلك العلاقة على المستوى الدلالي والتأويلي، فكل منفيّ في مثل هذا المقام ضربٌ من الإثبات. ولكنها فذلكة الكتّاب والقصاصين حين يقرّرون التمويه واللعب الفنيّ. أما الإهداء فأخّره إلى الصفحة الأخيرة وجعله "إهداء متأخر": (إلى هولاكو حين يصير بحجم ذبابة). وتأخير الإهداء تبعاً لتغيير وظيفته يجعل منه انتقاماً أو عقاباً، وتأخيره يستقيم مع النظرة التي تهدف إلى تصغير "هولاكو" وتأخير موقعه التاريخي.
و"هولاكو" كما يعرف كثيرون هو أحد زعماء التتار أو المغول الذين هاجموا بلادنا في القرن السابع الهجري، وأسقط الخلافة العباسية المتهالكة. وروى التاريخ صوراً دامية من عنف التتار وقسوتهم أثناء احتلالهم العراق والشام. ثم لم يلبثوا أن اعتنقوا الإسلام وغلبتهم ثقافته وقوّته، فعادوا إلى موطنهم مسلمين.
وبهذا المعنى وظّف الكاتب شخصية (هولاكو) بوصفها رمزاً من رموز العنف والاحتلال والقسوة، وقد خصص له المؤلف أحد اقترافاته، وهو الاقتراف الثاني عشر. ولكنه بدلا من السرد المتوقّع الذي يفترض وصف أفعاله وجرائمه، اختار سبيلا آخر يتحوّل فيه الجلاد إلى "ضحية"، وهذا التغيير هو الذي يقوّي موقع القصة بوصفها قصة "تجريبية"، وأما العدو الذي يجابهه فلا يعدو أن يكون ذبابة صغيرة تعدّ مثالاً أو رمزا من رموز الضعف لا القوة. وإذا كان هولاكو ينتمي إلى التراث التاريخي، فليس في تاريخه مثل هذه الحادثة، أي أن القاص اخترعها للانتقام منه، والانتصار عليه سردياً على الأقل، ليُظهر أو يجسّد حجمه "الحقيقي" المتصاغر في إنسانيته وقيمته. تعرّضه القصة لإلحاح الذبابة، ورغم كثرة حراسه وجبروته فإنه لم ينتصر عليها، "واختلف الرواة فيما كان من أمر الذبابة مع هولاكو، فمنهم من قال إنها مكثت على أنفه حولاً، ومنهم من قال إنها مكثت حولين. ولكن أغرب ما قيل من أمر هذه الذبابة، أن الحراس ابتلعهم النوم، ولمّا أفاقوا من نومهم، صعقوا حين رأوا الذبابة مسترخية في صدر المجلس، وكان هولاكو جاثبا على أرنبة أنفها". ص110. إن هذا التحول أو المسْخ "الكافكاويّ" أشدّ عقاب لرمز العنف والقتل من جهة، وهو كذلك ضرب من اللمسات الغرائبية التي لا تبعد عن مناخ السرد التجريبي.
قد تذكّر هذه القصة بقصة للجاحظ رواها في كتابه "الحيوان" عن قاض بصري متزمت محافظ اسمه عبد الله بن سوّار، كان يصرّ أشد إصرار على التظاهر بالسكون الكامل، "كأنه بناء مبنيّ أو صخرة منصوبة"، فيمتنع عن أية حركة تخلّ بجدّيته وتزمّته، حتى فاجأته الذبابة وألحّت عليه أمام أعين حضور مجلسه، فخاض معها صراعاً متدرّجاً حتى اضطر أن يذبّ عن نفسه بكل حركة ممكنة، فتكشّف ضعفه الخفيّ وسقطت دعاوى اختلافه عن الآخرين. كأنما استعار حسام الرشيد الذبابة التي سلّطها الجاحظ على القاضي حتى يكشف أكاذيب جدّيته، وسلّطها كاتبنا على "هولاكو" حتى يكشف صغره ومكانته المتطامنة رغم ما ارتكبه من جرائم وأهوال.
أما القصّة التي تنطوي على تجريب وتجديد واضحين، جديرين بالتنويه، فهي ما جاء في الاقتراف العاشر "سيرة الكاتب في أدب الشوارب" فنلاحظ العنوان المسجوع الذي يذكّر بمهارة الكاتب في اصطياد اللمسات والمكونات التراثية، لكن القصة سارت في مسار متحرّر نسبياً من "التتريث" مما سمح لها بالانطلاق والتطواف في مناخات جديدة، دون أن تحدّها أو تحبسها تأطيرات الحكاية الشعبية التي سيطرت على طائفة من قصصه الأخرى. فيها على سبيل المثال قدر من الجرأة في كسر الإيهام السردي، وحضور تقنية "الميتا سرد" التي تسمح للقصة أن تتأمل ذاتها وأحداثها، أو تعرض افتراضاتها وخياراتها السردية. وقد تكرر هذا الملمح في المواقف الخمسة التي تكونت منها.
ويمكن القول أيضا إن اصطياد الحوادث وصياغة الحبكة السردية التي تعتمد على الوقائع والحوادث من أبرز ما تبنى منه قصص الرشيد، وعلى أهمية الحوادث وتكوينها للبنية الحكائية فإن تأثيثها بالمحتوى الداخلي والنفسي أمر ضروري في السرد المعاصر، ونحسب أن قصص حسام لم تلتفت كثيرا إلى هذا الجانب، فبدا محتواها الداخلي والنفسي والوجداني محدوداً أو غير واضح. تظهر شخصيات كثيرة ولكنها تؤدي دورها وتقوم بأفعالها ونتيجة لسيطرة الحدث يظل التناول خارجياً في معظم الأحيان، فتقدّم القصص سرداً ممتعاً مشوّقاً، لكن دلالته المعاصرة تظل غامضة أو شاحبة، ولعل الجانب الداخلي والفكري هو الذي يضمن وضوح الدلالة وتوفّرها وثراءها. فعلى سبيل المثال يقدّم لنا في الاقتراف الأول قصة (الحوّاس)، الذي يشير اسمه إلى وظيفته كلص جوّال طوّاف، ويمكن إيجاز بنيتها بالوظائف الآتية:
الحواس/اللص يسرق (قلادة السر)
السليماني (مالك القيادة) يبحث عنها مع أبنائه
يستعينون في بحثهم بالقوى المساعدة (المختار/العراف/شيخ الرعاة/
يتمكنون أخيرا من استعادة (قلادة السر)، "فيما ضرب الحواس في الآفاق باحثا عن قلادة أخرى".
فمثل هذا السرد بما فيه من حركة وحيوية ينطوي على الإمتاع، وعلى عناصر السرد التراثي، ولكننا لا نعثر فيه على شيء يضيء الشخصيات بلمسات نفسية أو داخلية، كما قد نتساءل: ما قلادة السر؟ وما رمزيتها؟ وكيف يهتدي القارئ إلى مثل هذه الدلالة؟ وماذا تريد القصة أن تقول؟ كل ذلك يظل غائباً أو شاحبا، بسبب التركيز على الأحداث، وعلى وظائف الشخصيات مما يقدم حكاية قصصية تتقاطع مع وظائف الحكاية الشعبية، ولكنها تظل ناقصة من منظور القصة القصيرة المعاصرة.
وتستبطن قصة (قمر: عرافة عنق التمائم) جانباً من حكاية أهل الكهف، إلى جانب توسيعها بحكايات العرّافات والتقاطع الجزئي مع مقولة امرئ القيس بعد تحويرها (اليوم خمر وغداً أمر). ويكوّن من هذه العناصر المتنوعة متوالية سردية من ستة مواقف: يجعل لكل منها عنوانا، إلى جانب هندسة توزيعها بشكل قصدي منظّم:
أ‌. زوار الكهف
من أحاديث العرافة: أولا/
ب‌.                    اليوم خمر وغدا قَمَر
من أحاديث العرافة: ثانيا
   ج. نايات الرعاة
  من أحاديث العرافة: ثالثا
وهي قصة تحاول في نظرنا تمثيل فكرة الصراع والغزو وعنجهية القوة والتسلّط. لكنها أيضا تظل في إطار الحكاية غير المؤسسة معرفياً على أفكار معاصرة، وتظل أسيرة محتواها السردي التراثي ومتعتها السردية دون أن تتمكّن من تضمين ذلك السرد التراثي "شيفرة" معاصرة محددة. فالعرّافة فكرة وشخصية رتيبة لا ينبغي أن تمرّ مرور الكرام، وفتية الكهف لم يُظهروا أية مقاومة، ولا تتلاءم النهاية التي تنتصر فيها العرافة مع مؤدّى القصة، فبدا الحل قسريا مصطنعا. العرافة والكهانة شكل معرفي قديم ولكن العلم اليوم هو السبيل للمواجهة، وليس العرافة المستندة إلى الغيبيات الغامضة.
لم نعرف ذنب الرعاة الهاربين فما شأن قائد جيش عرمرم برعاة؟ ولم يلاحقهم ويرغب في الانتقام ممن أجارهم؟ كل ذلك لا تضيئه القصة لتبرز أسباب فكرتها بشكل أوضح وأقوى. وتتكرر صياغة هذه القصة باستدعاء فتية الكهف مجدّداً في الاقتراف السادس(الضاحكون) ولكن في غياب شراكة (العرافة) وبوجود شخصية "الثعلبي" بدلاً من الأشرم في القصة الأولى. وفي السرد الشعبي "الوظائفي" تتغيّر الأسماء والشخصيات لكن الوظائف ثابتة، وهذا بعض ما يعمد إليه الرشيد في قصصه القصيرة ذات المنزع الحكائي. فقصص الرشيد في هذه المجموعة وفي أخواتها السابقات (رأس كليب، وليمة الجاحظ) تعتمد أكثر ما تعتمد على تشكيل القصة الحديثة من مكونات تراثية، بأساليب ومعالجات متنوعة، ويجتهد الكاتب في محاولة "التتريث"، وفي عصرنة المادة التراثية، فمن المؤكد أن القاص المعاصر لا يهدف من ناحية المبدأ إلى تقديم تكرارات أو إعادات سردية دون وظيفة معاصرة.




  ج. طارق بنات: التجريب وكثافة السرد في القصة القصيرة جدّاً

أما طارق بنات فيهدي مجموعته التي تحمل عنوان (خيبة) "إلى عائلتي..لا زالت شجرتنا شجرة، وبيتنا بيتا، ونحن قصة يسردها الحب". والإهداء عتبة من عتبات أي كتاب يجدر بنا أن نلتفت إليه، فقد يكون فيه بعض مفاتيح قراءة الكتاب. نفهم من هذا الإهداء تأكيد التوافق والتفاؤل والتئام الشمل وحلول الوئام، على تكوين اجتماعي محدد هو "العائلة" وللعائلة دوما وفق العرف العربي "شجرة رمزية" يسمونها "شجرة العائلة"، ولعلها المقصودة هنا، فبقاء الشجرة أو استمرارها مبدأ جوهري في الحياة والأمل والبقاء، وضمان استمرار "البيت". هذه الروح المتفائلة المتوافقة ربما تشعرنا بالتعارض الخفي مع العنوان "خيبة" فهل يهدي خيبته إلى عائلته مدّعيا أو متظاهرا بالتواؤم والتوافق؟ مثل هذا التعارض الخفي قد يفضي إلى شيء من المفارقات التي ترحّب بها القصة القصيرة، وهو ما قد نستكمل التفكير فيه في قراءتنا لمتون القصص في هذه المجموعة.
ويلفت الانتباه أن الكاتب صنّف كتابه في ثلاثة أنواع كما هو مثبت على صفحة العنوان الداخلية "قصص قصيرة، قصص قصيرة جدا، ومضات قصصية". ولكنه لم ينظّم النصوص داخل الكتاب وفق هذه الأنواع، وإنما ترك الأمر لاجتهاد القارئ. وفي رأيي فإن "الومضة القصصية" ليست نوعا أدبيا مستقلّاً، وإنما تسمية مرادفة استعملها بعض الكتاب بديلا عن تسمية "القصة القصيرة جدا" التي تدل على النوع الأقصر والأكثر كثافة من أنواع القصة، وقد استقرت هذه التسمية إلى حد كبير وتفوقت على غيرها من التسميات البديلة.
معظم مكونات الكتاب من هذا النوع بصرف النظر عن مدى التوفيق الذي أصابها، ومدى التفاوت بينها في تحقيق متطلبات نوع القصة القصيرة جدا، وإذا استثنينا القصة الأخيرة (خيبة) التي تمتاز بطولها النسبي، وبنائها المنظّم، فإن بقية القصص هي من النوع الأشد إيجازا وكثافة.
في قصة "خيبة" اجتهد الكاتب في استلهام شخصية الشاعر الجاهلي امرئ القيس، مع التركيز على رحلته إلى القسطنطينية (بيزنطة) للاستعانة بالقيصر أو الامبراطور الروماني (يوستيانوس) لاستعادة ملكه الذي تبدد بمقتل أبيه الملك حُجْر على أيدي بعض مواطنيه من بني أسد. ولا نريد أن نخوض في هذه السردية القديمة ولا في مدى اتفاقها أو اختلافها بين التاريخ والأسطورة، فذلك سياق آخر لا يسمح به المقام. ومؤدّى القول في صياغة طارق بنات لتلك السردية أنه عرضها عرضا اتفاقيا ملخّصا عما جاء في المصادر العربية، ولم يجدّد أو يضيف جديدا في قراءته، رغم أن التوظيف القصصي يفتح المجال واسعا لتقديم الجديد، فجاءت قصته أشبه بتلخيص لما ورد في كتاب الأغاني للأصفهاني، أو حتى بعض ما لخصه المعاصرون حول هذه الرحلة التي انتهت بمقتل صاحبها بالحلة المسمومة التي تفسر كنية امرئ القيس "ذو القروح". ولعل الكاتب يتفق معي أن التلخيص والتوافق مع الموجود لا يبني قصة ثمينة، وإنما تنشأ مكانة القصة من عدولها عن السائد والسابق، ومقدار إضافتها إليه، وقد خلت هذه القصة من الانزياح عن جملة الأحداث المروية واكتفت بإيجازها ووضعها في قالب أقصر، واستشهدت هنا وهناك ببعض الأشعار المشهورة لبطلها كما وردت في ديوانه، مع التنبيه إلى حصول بعض الخلل في إثباتها من ناحية سقوط بعض الألفاظ منها ربما بسبب فني في إخراج الأبيات الشعرية وتوزيعها بين الصدر والعجز.
الأمر الآخر الذي يمكن التنبيه إليه أن القصة بدت خالية الذهن من تجارب مهمة سابقة في توظيف شخصية امرئ القيس، فمن المعروف أن هذه الشخصية قد لفتت انتباه الأدباء المعاصرين فوظّفوها بصور مختلفة في الشعر والقصة والمسرح،  ولعل الاطلاع على بعض تلك الصور يمكن أن يغني القصة الجديدة، ويدفعها للبدء من مرحلة متقدمة بدلا من الاعتماد على الرؤية التوافقية وإعادة التلخيص، مما لا يسمح بتقديم أبعد من قصة تعليمية اعتيادية.
وإذا تركنا هذه القصة وانتقلنا إلى القصص القصيرة جدا التي تشكل معظم مادة الكتاب، فإننا سنلمس اهتمام الكاتب بالتجريب القصصي اهتماما واضحا. والتجريب –كما أشرنا- يعني في بعض ما يعنيه محاولة تقديم عمل أدبي لا يركن إلى الشروط والقواعد المستقرة، وإنما يرود آفاقا أخرى، بتغيير في ترتيبها أو طبيعتها. أما عماد "التجريب" في هذه المجموعة فيعتمد أكثر ما يعتمد على مبدأ "التجريد السردي" وهو مبدأ يمكن فهمه عبر استناده إلى التجريد في فن الرسم الذي سبق "التجريد الأدبي"، ويتضمن التجريد التخلص من التشابه مع الصور الواقعية، والتخلّص من التفاصيل والعلامات الفارقة البارزة، واختزال الأشكال والخطوط، مما يؤدي إلى الغموض، وإلى اتساع الدلالة وإمكانية تعدد القراءات بحيث لا تدل اللوحة أو القصة على معنى واحد أو شكل واحد.
القصة القصيرة جدا كما تظهر في هذه المجموعة تعتمد على ضروب من التجريد السردي، ويتضمن ذلك فروعا وتجليات منها إخفاء ملامح الشخصيات وهوياتها الاجتماعية أو الاكتفاء بالحد الأدنى الذي لا يكاد يكشف شيئا، ومن مظاهر هذا التجريد مسألة التخلي عن تسميات الشخصيات، فأغلب الشخصيات دون أسماء، ودون ملامح محددة، وقد يفضي التجريد في نظر من يكتبونه أو يعمدون إليه إلى ضرب من الكتابة الوجودية والإنسانية التي لا تتصل بملامح إنسان أو مجموعة بشرية محددة، وإنما غايتها تقليم الفوارق والهويات إلى هوية مشتركة تتفق فيها هموم البشر. ولكن ثمة اعتراض على هذا عبر استذكار دور الأدب والقصة في إبراز الهوية والخصوصية الثقافية، وقد يتمكن الكاتب المقتدر من الوصول إلى العالمية والإنسانية من خلال الكشف عن العناصر الإنسانية بصيغتها المحلية كما فعل أدباء أميركا اللاتينية مثلا، وكما فعل رسول حمزاتوف في الثقافة الداغستانية، وكما فعل نجيب محفوظ مثلا في نقل أحياء القاهرة الفقيرة الشعبية لتغدو أحياء عالمية دون أن يجردها من خطوطها وملامحها الفارقة. ولكن هذه الأسماء تمثل تجارب في الكتابة الواقعية التي تختلف في منطلقاتها واتجاهاتها عن الاتجاه التجريبي.
القصة الأولى مثلا تحمل عنوان (لا شيء)، لا تكاد تتجاوز كلماتها أربعين كلمة، خمسة منها كلمة (لا شيء)، واللاشيء هو محو أو نفي للشيء، وتتصادى هذه القصة مع الجدل المعاصر في الفلسفة والفيزياء والأدب حول (ثنائية: الشيء واللاشيء)، ولكن ربما حدّ من فاعليتها التكرار الذي بدا ضرباً بديعياً لغوياً طريفاً أكثر منه إصراراً على فلسفة (اللاشيء). على أية حال يؤكد هذا المفتتح مسألة التجريد الفلسفي والسردي، وميل الكاتب إليها، وهو منحى صعب وشاق، ولكن فيه قدراً من التنويع في كتابة القصة. كما تعيدنا قصة طارق بنات إلى قصيدة للمرحوم محمود درويش في مرحلته الشعرية الأخيرة التي مالت إلى التجريد الشعري بعد مرحلة طويلة من شعر الهوية، من كتابه "أثر الفراشة" بعنوان (عن اللاشيء) منها:
(هو اللاشيء يأخذنا إلى لا شيء
حدّقنا إلى اللاشيء بحثا عن معانيه
فجرّدنا من اللاشيء شيء يشبه اللاشيء
فاشتقنا إلى عبثية اللاشيء/فهو أخف من شيء يشيئنا....".
ومؤدّى القول أن القصة التجريبية تتفاعل مع الأفكار الفلسفية والتجريدية، ولا تخشى منها، كما أنها بإضافة هذا المصدر الثقافي والمعرفي تعوّض عن قلة التفاتها إلى مكونات الواقع وموجوداته التي لا تميل إلى الركون إليها، وإنما تعد ما يفكر فيه الإنسان وما يحيره أولى في التأثير والفاعلية من كتابة الوقائع الموجودة سلفا.
وإذا كان الشعر بطبيعته اللغوية والتصويرية أكثر قابلية للتجريد، فإن القصة القصيرة جدا تنحو منحى الشعر لأنه يساعدها على ذلك، ولكنها عبر هذا التحول أو الاستعارة من عناصره وأساليبه التصويرية واللغوية تخسر بعض عناصرها الحكائية التي قد يؤدي نقصانها وتؤدي خسارتها إلى غياب بعض ملامحها الحكائية، وهو ما قد يشكو منه قراء هذا اللون وهم يفتشون عن "القصة" أحيانا فلا يعثرون عليها، إلا أشتاتا ممزقة بين تفاريق الكلمات.
وأما الجميلة والوحش (ص19) فقصة قصيرة حافظت على بنية حكائية معقولة ربما تسببت فيها البداية السردية الملزمة (يحكى أن) وهي من مفاتيح السرد العربي القديم، لكن الكاتب وظّفها توظيفا حسنا جديدا لا يخلو من الإمتاع والدلالة، ومعارضة المتوقّع أيضا، فالأميرة الضجرة من حياتها المرفّهة اتصلت بالتعساء والفقراء بنصيحة عرافتها، ولما عرفت الواقع المغاير المؤلم ألما حقيقيا، فرّت منه وعادت إلى حياتها الهانئة. ثمة انتقالات وأحوال واضحة رغم كثافة القصة وإيجازها، وثمة سخرية مكتومة من الضجر "البرجوازي" الذي يكفي لإزاحته نظرة جانبية إلى عالم الفقراء والتعساء. هذه القصة تمثل واحدة من أنجح القصص في هذه المجموعة رغم بساطتها الظاهرية، ففيها بنية متكاملة، والتجريد فيها لم يلغ الملامح وإنما أبقى ما هو ضروري لميلاد قصة ناجحة.
أما اللعب اللغوي عبر استعمال السلسلة اللغوية التي تتولد فيها الجمل من بعضها، فليست طريقة مأمونة دائما رغم مظهرها الذي يوحي بالتفنن، (كما في قصة: تيار) فمثل هذه الجملة المتكررة تثير الرتابة، وتؤدي إلى شيء من العنت ولزوم ما لا يلزم، إلى جانب ضعف البنية الحكائية/السردية، التي تقتضي تنويعا وحركة لا توفرها جملة نمطية في التركيب والمفردات.
أما قصة "ماذا تريد الدكتورة عائشة" فقصة جيدة، وهي من القصص القليلة التي استعمل فيها الكاتب أسماء صريحة للشخصيات، وهما شخصيتان هنا: الدكتورة عائشة، وأينشتاين الذي يحضر في حلمها أو كابوسها. أما استعمال الاسم هنا فجاء ربما لإظهار المفارقة والتعارض بين الاسمين؛ اسم شرقي أو عربي بامتياز (عائشة)، ولكن تخصصها في الفيزياء هو الذي وصلها بالاسم الأجنبي (أينشتاين) فلا بد للفيزيائية أن تألف هذا الاسم لتردده في تخصصها. ولكن رغم هذه التسمية التعريفية فإن القصة جرّدت الاثنين من الوظيفة الفيزيائية-العلمية، وكشف حلم الدكتورة التي احتفلت ليلتها بعيدها الخامس والثلاثين، عن المكبوت في اللاوعي، فعائشة تأخر عنها قطار الزواج، والرجل يحتل لاوعيها عنوة، أكثر من الفيزياء، ولذلك عندما استدعى حلمها أو كابوسها شخصية (أينشتاين) لم يحضر (الفيزيائي) في إهابه، وإنما حضر الرجل الذي هاجمها بعنف في حوض الاستحمام. وليس هذا التعبير الحلمي عدوانياً، وإنما هو تعبير عن المرغوب فيه وعن المكبوت في الشخصية.
















ثالثا: اتجاه القصة النسْوية

نميّز القصة النسوية في اتجاه مستقل، مع إدراكنا أنها قد تكون واقعية، وقد تكون تجريبية، ولذلك فوجودها هنا ليس معارضة للاتجاهين السابقين أو غيرهما، وإنما هو اجتهاد قد يسهم في إنصافها، وعدم تغييبها أو ضياعها وسط الإنتاج الكثيف للأدباء الذكور.
ولقد ارتفع شأن الكتابة النسوية، والثقافة النسوية، وكذلك النقد النسوي في العقود الأخيرة، ونحن لسنا بمعزل عن هذا الجدل. ومؤدى ما نراه فيه أن التجارب الاجتماعية واختلاف النساء عن الرجال اختلافا "جندريا" و"بيولوجيا" واجتماعيا وثقافيا يؤدي إلى اختلافات جوهرية في الوعي والكتابة، مما يسوّغ تخصيص اتجاه مستقل للكتابة النسوية؛ لإبراز شيء من خصائصه الفارقة.
وقد برزت الكتابة القصصية للمرأة الأردنية مع جيل التسعينات في العقد الأخير من القرن الماضي، فظهرت تجارب بارزة في تجربة القصة الأردنية على مستوى كتابة النساء التي كانت نادرة وقليلة طوال العقود السابقة على هذه المرحلة.  
ويبدو أن الأسماء الثلاثة التي نتناولها هنا (علا عبيد، ماجدة العتوم، لينداء عبيد) أقرب إلى امتداد أسلوب التسعينات، والتنويع على الخصائص الكتابية التي تميزت بها كتابات ذلك الجيل، وتعرضنا لها في دراسات سابقة.

أ‌. علا عبيد: شعريّة القصة الغنائية
دون مواربة يبدو صوت عُلا عبيد صوتاً قصصياً شديد التميّز، يعود بنا إلى جماليات السرد الريفي، وبلاغة الخبرة القروية؛ ومعنى هذا أنّ قصصها تنطوي على رائحة المناخ المحلي التلقائي، وهو مناخ يمنح القصة بعض ملامح هويتها، ويضعها على عتبة الخصوصية. ولكن هذا المناخ الريفي-الواقعي لا يتجلى في القصة بأدوات الكتابة الواقعية، ذلك أنه يرد في خلفية القصة وليس في طبقتها الظاهرية، كما أن التفاصيل والوقائع ترد مختلطة بما يصحبها من تأثيرات وجدانية تبدو هي علة استحضارها، ولذلك فثمّ اختلاف واضح في توظيف مكونات الواقع والإفادة منه، فليس اصطياد تلك المكونات هدفا مباشرا تتقصد القصص الاختيار منه، وإنما يغلب أن يرد في سياق "أنثوي" لإبراز أثر تلك المكونات والوقائع على روح المرأة ووجدانها.
وهذا ما ينقلنا إلى سمة بارزة تتميز بها قصص (الفراشة الحمقاء تحترق مرتين) وهو ذلك الخيط الغنائي الذي يشدّها إلى الشعر، وتنعكس تأثيرات هذا الخيط على اللغة القصصية حيث تترصّع بالصور والاستعارات والتعبيرات التي توحي أكثر مما تصف أو تنقل خبراً، وعبر الجمع بين عناصر المناخ المحلي والروح الغنائية تتأسس تلك الكثافة العاطفية، دون أن تنفلت القصة إلى النصية أو الخاطراتية، وهو أحد المزالق المحتملة للقصة الغنائية أو الشعرية عموماً.
وبمقدورنا أن نستعير مفهوم محمد مندور حول الشعر المهموس، لنذهب إلى أن عُلا عبيد تكتب (السرد المهموس) بما فيه من انسياب وإخفاض لضجيج الخارج، ولغة طيّعة جديدة، تدخل إلى أجواء التجريب والتعبير عبر مزج منظور القصة بالمنظور الشعري والذاتي. كذلك تبدو الكاتبة مقتصدة أو متقشفة في استخدام التقنيات القصصية، لكن دون أن تؤذي قصتها أو تضرّ بها، يحركها التعبير القصصي وحاجاته دون هوس بتجريب تقنيات قد تكون غير لازمة لموقفها أو لحاجتها التعبيرية.. ولو شئنا استعارة أساليب النقد القديم، لقلنا إن الشكل جاء على قدر المضمون، والمبنى جاء على قدر حاجة المعنى دون أن يزيد أحدهما عن الآخر.
ويبرز في قصص علا عبيد المعجم الريفي الذي يؤسس مداخله عبر مفردات الطبيعة: أرض وسماء وكواكب وشجر ونبات ....، فالشمس والقمر والنافذة والعصفور والفراشة وما أشبه ذلك من المفردات التي تؤسس لحقل دلالي شديد الوضوح، يؤكد تميّز هذه القصص التي كتبتها (البنت التي لعبت في البعد الرابع) إذا استعرنا عنوان إحدى قصصها المميّزة، وهي القصة التي تُدين فيها الوسط الاجتماعي وتؤنّبه دون قسوة بالغة: ("ما أجمل القرية لولا ناسها"!! تقول لنفسها، ثم تحلم أنها تركض في الطرقات وأنها تلعب (القلول) وتصنع (نقّيفات) معوجّة، وتركب حمار (أبو خليل) ولا أحد يسألها (وين؟  بنت مين) ثم في المساء تمضي للبيادر تجلس تحت ضوء القمر وتدخّن القصّيب...) إنها مطالب بسيطة لفتاة قروية، تختلف هواجسها ومطالبها عن مناخ المدينة أو حاجاتها، وفي التعبير المستمد من البيئة المحلية مع الوعي "غير المؤدلج" بضرورات الحرية وإطلاق طاقات الفتاة والمرأة، تكتسب قصص عُلا عبيد سماتها التعبيرية والرؤيوية.
أما اللغة الشعرية، فتأتي مدمجة بالمعجم الطبيعي: "نادتني زهرة حمراء فملتُ أوشوش ياسمينة تعربشت في قلبي، قلت لها إن الأبيض لون الحزن لذا يرتديه النهار في النهار ويخلعه ليلاً، يطمع الربيع في وسادتي، يرسم فوقها زهرة وفراشة طازجة".
وعُلا عبيد بهذه اللغة المصفّاة، وبما تنقله من مناخ محلّي، تطوّعه للقصة الحديثة – صوت يستحق الترحيب، ويمكن أن نعوّل عليه فيما يتعلق بخصوصية كتابة المرأة الأردنية، وهي تكشف عن خصوصيات تجربتها الريفية، وعن جوانب حيوية من مقاومتها للضغوطات والإكراهات الاجتماعية، وخصوصا ما يرتبط بكونها "امرأة" أو "أنثى"، فترى في هذا التمييز ضربا من الظلم أو القهر الذي يولد كثيرا من قصص النساء.



ب‌.                     ماجدة العتوم: صور من التجريد والتجريب "الحذِر"
قصص ماجدة العتوم في مجموعتها الأولى (أحلام مهزومة) قصص علاقات خائبة، مروية من منظور المرأة، وعنوان المجموعة يدلّ على طبيعة القصص، فهذه الأحلام هي أحلام المرأة  في عشقها وانتظارها، في تفاؤلها ويـأسها. ولا تكاد تخرج القصص عن هذه الطبيعة العاطفية التي تذكّرنا بمناخ التسعينات عند عدد من كاتبات القصّة. ويلحق بهذه الطبيعة العاطفية جملة متغيرات، فمتن القصة متن من الكثافة الوجدانية ومحمولاتها التعبيرية التي تقرب السرد من النّص أو روح الخاطرة المشعرنة، بما فيه من تبدّد الحكاية وتشتيت مكوناتها.
كذلك تبدو هذه الحالات العاطفية كأنّما هي مستقلة أو منفصلة عن الزمان والمكان، فأنت لا تتبين للمكان أثراً، ويبدو الزمن أقرب إلى الحياد، إذ أن الهزائم المتلاحقة والإخفاقات المتتابعة تحيّده، أو تجمّد حركته، بحيث لا تتفاعل الشخصية مع محيطها ومع زمانها، بل تبدو في موقف استذكار أو حنين، ينطلق من الذات ويؤوب إليها بصورة وجدانية شبه خالصة.
ومما يوضح المناخ القصصي في هذه المجموعة، مطلع القصة المعنونة بـ (ولن أتذكر): "أرتدي روحي، وأطقطق خلاياي، وأحمل عنك الثواني التي ملأتك بها شعراً، وأتسلل على أطراف ألمي كي لا تصحو، فتنتبه إلى الموت يرغي في عيني". وعلى هذا النحو من طواعية اللغة الوجدانية التي ترسم صوراً وتبني استعارات أكثر مما تقصّ أو تسرد، تمضي القصة، لتخبرنا باللغة الموحية ذاتها عن إشعال الشمعة، ثم عن القهوة التي تفيض وتنسكب دون أن تنتبه الفتاة إليها، وبين هذا وذاك استذكارات الشخصية وخطابها للرجل الغائب، حتى ينتهي الليل وتنتهي القصة "ثم لا أتذكر، لعل أطلّت الشمس، لتعلن ميلاد نهار جديد، وقهوة ذات مزاج جديد، وصمتاً لا نهائياً يئز على أنغام نشيد الباب الصوتي: وكل الذين ستعشق ماتوا".
إذن نستطيع أن نتثبّت من أن هذه التجربة هي صوت آخر في إطار القصّة الغنائية بمعناها الطاغي، الذي بلغ ذروته عند جيل التسعينات، دون تحويرات بليغة، ولكن دون أن يمنع ذلك من تقدير هذه الموهبة اللافتة في حساسيتها وفي وفائها لعالم الأحلام والعواطف.
وبصفة مجملة تسكت ماجدة العتوم عن مرجعيات قصصها، بمعنى الأرضية الاجتماعية أو الوسط الذي تخرج منه الشخصية، فنحن نجد أنفسنا أمام ذوات شبه معزولة، مما يدفعنا للتساؤل عن المسكوت عنه أو القسم المحذوف الذي قد تتمركز فيه فتنة السرد أكثر من الجزء العاطفي الظاهر، وهناك مدى واسع يمكن لقصتها أن تتجه إليه سواء من ناحية العمق النفسي لشخصياتها، أو من ناحية التقنيات السردية التي قد تمكّنها من تخفيف روح الخاطرة لصالح البنية السردية، لأنّ المخزون العاطفي بالرغم مما يكثفه من تأثير فإنه لا يكفي لبناء قصة موفّقة.
أما في مجموعتها الثانية (تأخّرت جدّاً) فخطت ماجدة العتوم من خلالها خطوات إبداعية ملموسة، بتخفيف المحتوى الغنائي، ودمجه بمكونات ومؤثرات اجتماعية ونفسية متنوعة، مثلما طوّرت أدواتها لغة وأسلوبا لتظهر قدرات مخبوءة تمكنها من التفنن في سردها، ومن تقديم قصص مشوقة مشغولة بحس عال وبرهافة تلائم القصة القصيرة.
ومن أبرز ما يلفت انتباه القارئ في المجموعة الجديدة اتجاه القاصة إلى "التجريب المسؤول" أي أنه تجريب مصحوب بالحذر من الوقوع في شراك العبث أو اللعب غير الفني أو المضاد للجمال وللسرد الممتع. ومن صور هذا التجريب ظاهرة السرد التجريدي، الذي تعمد فيه إلى تحويل الأفكار والمشاعر والأشياء المجرّدة إلى مادة سردية، كما في: قصة "ندم"، وقصة "غياب"، وقصة "حب". ففي القصة الأولى شخصيتان: الندم، والفكرة. وتبدأها على النحو الآتي: "سقط الندم في بئر عميقة، لم يسمع له صوت، سوى صرخته الأخيرة، مستنجداً ألا يكون. وفي قاع النفس المظلمة، هوى مستلقياً وغفا، فرأى في منامه أنه استيقظ، فانتبه إلى وجود فاتنة تجلس فوق رأسه، وفي عينيها نظرة عطف على حاله...عاد إلى النوم مجدّداً وأقسم في قرارة نفسه ألا يستيقظ. هذه المرة همست له باسمها: فكرة. قالت له إنها كانت عالقة في بال شاعر، أحبّته جدّاً وأهملها..". ص13. ولا شك أن السرد هنا سرد مجازي يقوم على طاقة عالية من التخييل عبر تشخيص المجرّدات وأنسنتها. فيتجسد الندم والفكرة في تشكيل سردي يجمع بين ذكورة الندم وأنوثة الفكرة، وتتسع القصة ليظهر الندم حالماً، وفي الحلم دوما آفاق تسمح بالجموح وتفتح طاقة التخييل.
وفي قصة "غياب" تحوّل "الغياب" إلى شخصية وتجسّد معناه القبيح المؤلم إلى شخصية قبيحة، في ضرب ممتع من تحويل المعاني المجرّدة إلى شخصيات مجسّدة: "أطلّ الغياب بوجهه القبيح من ثقب الباب، دخل بجسده المصنوع بعشوائية ودون انسجام، جال في المكان بحرّية صاحب بيت، لم يكن أحدٌ موجوداً، فالكلّ غياب، استغلّ الفرصة جيداً، وضاع في تفاصيل المكان". ص45. ثم يتوسع السرد وينمو عبر عبث "الغياب" في موجودات البيت، وفي النهاية "مثل أي طفل مشاكس قضى نهاره في اللعب والتخريب، أسلم الغياب جسده لبرهة راحة، دون أن يفكّر بما فعله..ونام". ص46.
وفي القصة الثالثة من هذه القصص التجريدية وعنوانها "قصة حب"، تبني الكاتبة قصتها من شخصيتي "الصوت والصدى" وهما طرفا ثنائية معروفة، لكنها تعمد إلى اختراع صلة جديدة بينهما تفسّر اقترانهما الأبدي، ويأخذ السرد طرفاً من أسلوب سرد الأسطورة التفسيرية أو الخرافة التعليلية التي تفسّر بعض الظواهر تفسيراً أدبياً عندما يعجز الإنسان عن تفسيرها تفسيراً منطقياً. وفي الوقت نفسه تتأثث القصة بتفاصيل ومشاعر إنسانية مشخّصة، فتؤنسن ظاهرة الصوت والصدى، وترى فيهما جوانب خفيّة من جوانب الحب الشقي المستحيل.
وفي مجموعة "تأخرت جدا" مجموعة أخرى من القصص يمكن أن تُدرس ضمن توجّهات السرديات النسوية، وذلك أنها نظرت إلى المرأة بوصفها كائناً مختلفاً له خصوصيته بعيداً عن التماهي مع الرجل والغياب في شخصيته تحت حجّة المشترك الإنساني. وبالرغم من الحضور الطاغي للرجل في المجموعة فإن ذلك الحضور لا يخفي شخصية المرأة وقوتها وضعفها وخصوصيتها، وكأن حضور الذكورة لا بد أن يعادله بروز الأنوثة، لا بمعناها الجمالي، وإنما بالتعمق في محركاتها النفسية، وفي خصوصيتها الجندرية وما يتبعها من تبدّلات وتغيرات وأحوال لا يمكن أن تكون جزءا من عالم الذكورة ومكوناتها. وتحدب قصص المجموعة بطريقتها الخاصة على نسائها المقهورات، الحزينات، العاشقات، تتابع مشاعر فتيات وأمهات وشقيات. قصة "صمت" مثلا قصة نموذجية للسرد النسوي، فهي تحتكم إلى المنظور النسوي في رؤية العالم: "المرأة التي مكثت في صمتها وغيابها، قررت أن ترى العالم ويراها، نهضت مبكرة في ذلك النهار، رفعت الستائر عن النوافذ لتدخل الشمس إلى المنزل..". ص81. تولد تفاصيل السرد من اهتمامات نسوية شبه خالصة، وتظل تدور في إطار شخصية وحيدة هي شخصية المرأة الوحيدة، وصولاً إلى أمنية مستحيلة بامّحاء وجودها بعد خيباتها: "الآن فقط تمنّت لو لم تخرج لشراء القهوة، لو لم تخرج من عزلتها، لو لم تخرج من بطن أمها أصلاً..". ص83.
وفي قصة "سيرة الصمت" جانب آخر من النسوية، تعرج عليه الراوية حين تنقل "أحاديث النسوة عن الحمل والولادة، فسردت لنا المضيفة سردا وافيا ومفصلا، قصة عملية الولادة التي مرت بها..بدءا من لحظة وصولها المستشفى، مرورا بإعطائها حقنة الطلق الاصطناعي، وتحدّثت بلوعة عن آلام الولادة، حتى خرج المولود إلى النور...". ص50. فالنسوية بمعناها الخاص تتعلق بما لا يمكن للرجل أن يصفه أو يعرفه، تتعلّق بخصوصيات المرأة ومشاعرها وأحاسيسها التي تنفرد بها دون الرجل الذي يصر أن يشاركها في كل شيء، حتى في التعبير عما لا يتعلق به.
تكتب ماجدة العتوم القصة بتأن مثير للاهتمام، وتدقّق في بناء قصتها ولغتها وأسلوبها، كأنها تطرّز القصة تطريزاً دقيقاً لا يسمح للهشاشة أو الفراغ بالدخول إلى نسيج قصتها، وتتقن تسريد الذكريات الحميمة والجزئية، وتقدّمها في نسيج سردي يجمع بين كثافة المحتوى الوجداني وحيوية الوقائع السردية.
وواحده من قصصها البديعة تحمل عنوان "شأن من؟" ولقد تمكنت من إبقائها في خانة السرد القصير رغم طول الزمن الموصوف، وكثرة الأحداث وتراكمها، لأنها جمعتها كلها في إطار مشاعر البطلة الراوية، التي تبدأ قصتها بفقرة كلية مكثّفة تجمع أو توجز أفق القصة كله: "قصة ولد المدرسة الجميل ظلت تلاحقني ست سنين، ولم أدرك نهايتها إلا عندما غنّت لي الأخوات اللاهيات: طار الحمام طار. حدث ذلك في اليوم المحدّد لعرسه، وكنت أنا أحمل بين ذراعي طفليّ الجميلين، لكن ذلك لم يمنعني من الاختباء والبكاء على حلم عشته بكل تفاصيله، إلا أنه طار كما غنّين تماماً، وكنت قد طرت قبله لتكون نهاية معقولة وممكنة، ويصبح الأمر برمّته قصة يمكن سردها لحظة تنهض الذكريات من نومها، لنضحك نحن العارفون بتفاصيلها على ما هو مضحك فيها، وأما البكاء فيظل شأني". ص17.
فهذا الأسلوب الذي ينهض على التفاصيل الوجدانية محاذرا الوقوع في تفاصيل الواقع، وهذا التوجيه نحو وجدان البطلة وذكرياتها، وما يدخل في "شأنها" هو ما تمضي القصة نحوه، ويساعد على نفي الخارجي وتخفيف ثقله لصالح الداخلي الخفيف والمحتمل. وأما عبارة "من شأني" وصيغتها المنفية "ليس من شأني" فقد طوّرتها القصة لتكون أشبه بلازمة إيقاعية تسيطر أو تحدّد الموجات الوجدانية والسردية، فتمنعها من الانفلات وتركّزها تركيزا فنّياً منظّماً، يشعرك بهندسة القصة ونظامها رغم شراستها الوجدانية والانفعالية التي يمكن أن تفيض في أية لحظة وتطغى على السرد ونظامه. إنها دورة حياة امرأة، بين الواقع المعيش اليومي الرتيب الذي تقيم فيه وتتفهّمه وتؤدي دورها المرسوم وفق متطلباته، ثم هناك المسكوت عنه مما يتمثّل في ذكرياتها وأحزانها الخاصة التي يسمح السرد بأن تكون من "شأنها هي"، كأنها قسّمت نفسها أو ذاتها إلى أجزاء لتكون عادلة ومنصفة.
لنتأمل العبارات المنظمة للسرد في أول الفقرات أو خواتيمها:
"ومن شأني أن أحس أن لا شيء ينبض بالحياة في هذه الآونة ووحدها صور الماضي تبعث نفحات من الفرح". (ف 2/ص17). وتنتهي الفقرة نفسها بطريقة التدوير لتختتم بتنويع على عبارة البدء بصيغة منفية: "وهكذا حتى يغلب النوم كل القصص، ثم لا يلبث الواقع أن يغلب القصص والنوم معا. وهذا الذي ليس من شأني". ص18. لقد نهضت هذه العبارة بصيغها المتنوعة بدور إيقاعي منظّم للذكريات ولأحوال الراوية، كما نهضت بدور هام على مستوى الصياغة والتفقير والسيطرة على مجريات القصة وتطورها وصولاً إلى النهاية التي تحوّلت فيها الصيغة من الإخبار إلى الاستفهام:
"أريد فقط أن أنام، أن أضع هذا الجسد ورأسه على فراش لا أستيقظ منه، ثم قد لا يحدث ذلك أبدا، فهل هذا شأني؟". إنها عبارة بسيطة صغيرة لكن الانتباه إلى دورها وتطويرها على امتداد القصة يؤشر على ما بلغته قصة ماجدة العتوم من تطور ونضج واهتمام بالتفاصيل اللغوية والأسلوبية.

ج. لينداء عبيد:  خطوة أخرى في "تذويت" القصة النّسوية
تكتب لينداء عبيد القصة القصيرة بتلك الروح الغنائية التي طبعت سرد النساء في العقود الأخيرة، أي عبر التحول في الكتابة السردية من الموضوع إلى الذات، فإذا كانت الكتابة "الواقعية" موضوعية مثلا، فإن كتابة القصة النسوية في إنتاج لينداء كتابة "ذاتية" تكشف عن الداخلي والجواني أكثر مما تكشف عن الوقائع الخارجية ومحتويات الواقع الموضوعي.
وقد نشرت الكاتبة إنتاجها في مجموعتين، الأولى بعنوان "رقصة الشتاء الأولى"/2009، والثانية "ما تبقى من الياسمين"/2014، ولها مجموعة قيد النشر بعنوان "أمنيات على ذراع المشمش". ولعل الناظر في هذه العناوين اللافتة وفي اختياراتها اللغوية على مستوى المفردات والتراكيب، يدرك التحوير والتغيير الذي أجرته كتابات النساء تجاه ثنائية "الذات والموضوع"، فبدلت في أولوياتها، وأعادت إنتاج الموضوعات والوقائع بعد اختبار صلتها بالذات وامتحانها امتحانا وجدانيا، يحصر أهمية "الموضوع" في درجة ذاتيته، وليس في طبيعته المستقلة الخارجية.
أما القصة التي يحمل الكتاب عنوانها "ما تبقى من الياسمين" فيمكن أن نعدّها قصة نموذجية في تمثيل أسلوب الكاتبة وميولها "الغنائية" التي تجعل من القصة شبه قصيدة ذاتية لا تخفي ضميرها أو صوتها الذاتي المفرد، ولا تخفي حمولتها الوجدانية الطاغية التي تنسجم مع الحضور الكثيف للذات الكاتبة والمتكلمة.
تبدأ القصة بمفتتح وصفي-وجداني تمهيدي من المتوقع أن يكشف عن الزمان والمكان والمعالم العامة لبيئة القصة:
"في الشتاء يبدأ الرذاذ بمداعبة وجنة الأرض، فترتجف بها لذة الحياة. تتوثب قصص العشق لتبدأ، ويتراكض العشاق فوق الأرصفة يبللهم ماء المطر، فيزداد الحب شقاوة. يراقبهم شجر الطريق، وتزدحم بهم المقاهي، تختلط الدموع والتنهيدات المحمومة، ولسعات البرد بصوت الأغنية وأصابع المطر". ص9.
سيخيب مثل هذا المفتتح ظننا، إن لم نكن قد قرأنا الكثير من قصص النساء، لنألف طريقتهن في النظر للأزمنة والأمكنة، وذلك عبر تحويلها إلى سياقات خاصة تتعلق بهن وبميولهن، فالشتاء هنا يمثل عنصر الزمان على سبيل المثال، ولكنه جاء بصورة مواربة تجعله يخص العشاق وحدهم، وهذا الصنيع ينسجم مع المنظور الوجداني والعاطفي الذي نحسب أنه المنظور المركزي للرؤية النسوية، ونحسب أن الكاتبة المعاصرة قد اتخذت من القصة القصيرة سبيلا للتعبير عن عاطفتها ووجدانها، بما يوازي قصائد الحب والغزل ذات الطابع الغنائي الكثيف في موروثنا الشعري القديم والحديث.
ويتبع الميل العاطفي ضرب من التعبير اللغوي الشعري الذي لا يتمنع تجاه الصور مهما تكن كثيفة أو متتابعة، وإذا كان السرد القصصي بصيغته الموضوعية يميل إلى الزهد التصويري، بل يحد منها لأنها تشتت السرد وتعطيه طابعا شعريا غير مرغوب فيه، فإن قصص النساء تستخدم تقنيات الشعر ببراعة واتساع دون اعتبار لصفاء السرد أو نقائه أو استقلاله:
"يومها كان الحب طفلا حافي القدمين، يتراكض تحت الشجر المبلل، ينظر إلى السماء ملؤه أمنيات كثيرة، يخلع قميصه، ويعزف قائمة الأسئلة المرة". ص9. هذه الفقرة القصيرة لا تعدو أن تكون صورة ممتدة تشبه أن تكون تجسيدا للمعنى "الحب"، ومن خلال التشخيص الاستعاري يغدو السرد ذاته سردا استعاريا عاطفيا يستند إلى الصورة نفسها، صورة الحب بعد أن استحال إلى طفل/إنسان يتراكض تحت الشجر ويخلع قميصه ويعزف الأسئلة!
إن هذا الطابع الشعري غالبا ما يأتي في قصص النساء امتدادا للمحتوى العاطفي، وكأن العاطفة بمعناها المباشر مرتبطة بالشعر وبطريقته في تقديم عناصر العالم والواقع، وهذا الارتباط يخفف نسبيا من تحول الصور والاستعارات وما يماثلها من عناصر شعرية إلى أثقال أو زخارف سردية، كما قد يحدث في نماذج قصصية أخرى تفتقر للمحتوى العاطفي الذي يسوغ الصياغة التصويرية نظرا لشدة ارتباطها بالمحتوى العاطفي والوجداني.
أما تتمة القصة فنجد فيها شخصيتين ضبابيتين: فتاة وشاب أو امرأة ورجل، والسرد التصويري تسيطر عليه المرأة، وربما لو رواه "الرجل" لقدم وقائع مختلفة تماما، ولكن سيطرة المرأة الرائية والراوية هو ما يجعل القصة تنحو هذا المنحى الأسلوبي والتعبيري. وأما ما تتحدث عنه القصة لو أردنا تلخيص وقائعها الفعلية فلا يعدو تعرف الراوية إلى خطيبها أو حبيبها الذي يطوق إصبعها بخاتم مستدير، وبدلا من أن تقدم هذه الحادثة الاعتيادية بالمعنى الواقعي بلغة سردية مباشرة، تعمد إلى تقديمها ممزوجة بالمشاعر الأنثوية، وتؤثث قصتها كلها اعتمادا على تلك المشاعر، وليس على وقائع تبنى على واقعة الارتباط بين رجل وامرأة. وتنتهي القصة بحضور الياسمين رمز الحب الأزلي، وبالخاتم المستدير، وبضحك المطر: "تناول زهرة كانت آخر ما تبقى من ياسمين المدينة الأبيض! علقها بشعرها، توسدت صدره، مدت له يدها، وقالت: أنا امرأة مصابة بنزلة أقراص الحب المجمدة داخل الحكايا، خارجة عن القانون، فهلا أهديتني خاتما مستديرا. السماء تمطر، كما أنا بلا مظلة، عانقها، فانفلت المطر بالضحك". ص10.
إن ما أسمته القصة بــ "أقراص الحب المجمدة داخل الحكايا" هي تقريبا المادة الأساس لتأثيث هذه القصة ومعظم قصص هذه المجموعة، شأنها في ذلك شأن طائفة واسعة من قصص النساء.