Jerash in spring
جرش: حديث الجبال والكروم
بقلم : علي طه النوباني
الجبال أيضا تحكي قصصها القديمة المدهشة، تحنو على أرواح من سكنوها عبر
ألوف السنين، زرعوها عنباً وزيتوناً, ورووها بعرقهم تارة وبدمهم ودموعهم تارة
أخرى. وجرش عروسة العشق والدوالي ذاكرة المكان التي تتحدى النسيان ، جالسة في حضن
الجبال منذ آلاف السنين، يكاد زيتها يضيء ، ودواليها ساحرة لها ألف جناح، أشارت
لروما وفي يدها خصلة من عنب؛ فجاء إليها أرتيموس متعبداً في محرابها بانياً لها
هياكل السحر والخلود.
أنا جبل قرب سوف، شهدت مواسم الكروم والدوالي على مدى القرون، كان الفلاحون
يرقبون قطوف العنب حتى تصير مثل حبات اللؤلؤ؛ فيتنادون إليَّ صغاراً وكباراً،
نساءً ورجالاً، حاملين معهم قطع الأخشاب والحطب، ومع الغروب كانوا يوقدون ناراً
كبيرة يراها التجار في درعا؛ فيجهزون قوافل الجمال المحملة بالبضائع ليستبدلوها
بالعنب.
وهنا بالقرب مني، ما زالت شجرة البطم الكبيرة تتدلى من غصونها بواقي قطع من
القماش الأخضر :
قماشة أم علي : قالت إن زوجها رحل بعيداً، ولم يعد ، بكت طويلاً حتى تبلل
ثوبها الأسود، ثم ربطت قطعة القماش على الغصن وتنهدت قائلة : يا رب ترجع الغياب
... نظرت إلى السماء ... وتمتمت : يا مجري السحاب. وابتعدت وأنا أسمع صوتها.
تميمة فاطمة : قالت إنَّ حضنها يشتهي طفلاً من زوجها الفارس الشجاع، طفلاً
يتربى بين الزيتون والكروم، يحدق نحو رؤوس الجبال الشاهقة وهو يمتطي مهرته الكحيلة
ويجوب جنان جرش من قفقفا إلى برما، يعدُّ أعشابها البرية ويروي عيونه من ألق
الألوان في فضاء جرش .
تنهدت فاطمة ولم تمسح دموعها ، قالت أقسم إذا رزقت بطفل أن أسميه على اسمك
أيُّها القديس، وأن آتي إليك كل عام وأقرأ الفاتحة لروحك ألف مرة.
ذهبت فاطمة وقد أشع من عينيها شيءٌ ما يشبه المطر في سنوات الوسم المبكر، وأنا
جبل قديم خبرت فصول السماء وخطوات القديسين وأحلام فاطمة التي عادت بعد عام وعلى
يديها طفل الكروم أدهم.
وأنا طرون، جبل قرب ساكب، قُـبَّـةٌ خضراءُ تقابل قُــبَّــة السماء،
منفوشة باللزاب والصنوبر، تموج بالذكريات والأغاني، مرّ قربي شرحبيل بن حسنة مع جيش
الفتح، وشوشني القائد العظيم : عانِقني أيها الجبل لكي أقرأ شيئا من ذاكرتك
الملتهبة لنسكن معا في عالم الخلود. عانقته وقرأنا معاً حرفاً عربياً قُـــــدَّ
من قميص الصحراء فامتزجت روحه بصلابة السنديان وألق اللزاب.
وأنا جبل النبي هود، باركني نبيٌّ قدّيس فَسُمّيت باسمه، كان يمسح بيده على
ترابي كلَّ يوم؛ فينبثق نور باهر من بين يديه يغمر فضاء جرش الأرجواني. أنّى نظرتَ
من جرش تراني مثل شرفة معلقة بين الأرض والسماء، رأيت جرش في كلِّ أحوالها، عامرة في
عصور خلت، ثم مستوحشة خالية ثمَّ عامرة من جديد. رأيتُ أدهم العربي وهو يتجول قرب
نهر الذهب ممتطياً ظهر الكحيلة، يجلس طويلاً قرب نبع القيروان، يتأمل خرخشة الحور
في الوادي ، أزيز الحشرات ، قامات القصب، خرير المياه، زقزقة العصافير، ثمَّ ينظر
نحو المباني الرومانية العريقة ، يتساءل : كيف كانوا يرفعون هذه الحجارة الكبيرة،
أيةُ أغان كانوا ينشدون، هل كان بينهم فارس عاشق مثلي ومعشوقة مثل زينب، هل كان
لزينب الرومية خدٌّ يمزج حمرة السماق بخضرة الدوالي.
ظلّ أدهم يتردد على الوادي إلى أن شاهد قوماً يعمرون جرش من جديد، يبنون
بيوتهم إلى الشرق من جرش الرومانية، ينقلون الحجارة والأخشاب على عربات قوية تجرها
الثيران ، يزرعون الحبوب ويربون الماشية مثل سائر الفلاحين، ومرةً بينما أدهمُ
جالسٌ قرب عين القيروان وقف بالقرب منه شاب وقال : أنا ميرزا، فحيّاهُ قائلاً : وأنا أدهم، ومنذ ذلك اليوم نشأت
بينهما صداقة حميمة، جابا معاً أودية جرش وجبالها. تناولا معاً المنسف الأردنيَّ
والشيبس والباسته الشركسي، وجالسا تجاراً جاؤوا من الشام وأنشؤوا سوقاً أمَّها
الناس من كافة المناطق المجاورة.
قال أدهم لابنه عليّ: يا ولدي جرش مثل أمك زينب، معشوقة تمنح العرفان
والتجلي،كوكب ضمَّ سفر الخلود، ياقةٌ من التاريخ تزرع في روحك سفر الأجداد، فاقرأ
في كتابها واصنع من ترابها مشعلاً للحبِّ والإخاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق